ماذا يفعل بك النحات حين تغرق في عالمه؟ يتعامل مع الفراغ والكتلة والحيز وكأنك كل هذا. يهندس العقل فيصنع سفناً تقليدية تجري حسب توجه الشراع أو أنتيكاً فاخراً لا تملك ثمن شرائه فلا تقع يدك إلا على أقفاص تظنها فارغة، تفوز بها جذلاً لخفتها لكنك سرعان ما تجد نفسك محشواً بداخلها وقد أوصد دونك باب القفص ورميت بكل وزنك في بحر هائج لا يستقر حتى وأنت تطفو على ورق فاطمة قنديل صاحبة رائعة (أقفاص فارغة) التي أبلت فيها بلاء حسناً وهي تحاول رغم كل تلك العذابات ألا تقول شيئاً! وكأنها تحفر في الهامش ما سيظل ملتصقاً بذاكرتنا الذوقية إذا ما سئلنا يوماً عن أجمل الأعمال التي قرأناها ولماذا أحببناها؟ لم يدر في خلدي أن فاطمة كانت شاعرة قبل أن تكتب هذه الرواية، عملها السردي هذا كان دهشة عالمية لأنها وببساطة كانت تقنعك بالخطأ وبالنقص وبالرغبة والممنوعات، بالواقع الذي نصدقه سراً ونلعنه جهراً. في قصة قنديل قدمت عملاً متكاملاً لا نستطيع أن نقول بعده أي شيء. ففور انتهائك منها سترتطم صفحات الكتاب على مكتبك وأنت تصرخ يا الله. أرادت أن تكتب عن معاني الحياة لديها وما تحسه فقط. معان كانت مكشوفة رغم حساسيتها إما لخجلنا منها أو لبراءتها أو حتى لغرابتها. تلتقطها من الشارع ومن الأصدقاء ومن علاقتها مع أمها المختلفة ثم تحبكها كقطعة نادرة من نسيج سميك استخدمته كبطانة لقماش ثقيل يدعى (أنا) وماذا بعد أنا وهي تقشرنا بسكين حادة لكنها لا تؤلم. إنها لا تملك فائضاً من الوقت لتتراخى في وسط العمل أو تأخذ استراحة تدعوك لإكمالها في الغد. وجبة دسمة لكنها لذيذة وعليك الاستمتاع بها والفراغ منها في جلسة واحدة وكأنك لا تريد لمشاعرك الانفصال عنك. لقد كانت الأقفاص على النقيض من عنوانها، لذا ومن دون مراوغة وقعتُ في فخ الدخول إلى عوالم قنديل بلا مقدمات، إنها تشبهني كثيراً وهي تفكر بصوت عالٍ وترمي بكل التهم والأخطاء عرض الحائط، ابتداء من علبة الشكولاتة إلى معنى الخفة التي أشارت إليه في أكثر من موضع، فهي حين تبدأ بالكلام تسبح في فضاء واسع دون الاشتباك بالأسباب أو الاعتذار منها، تتكلم في خط مستقيم دون أن يجرؤ أحد على إيقافها، تأخذك إلى صفحة المئة والخمسين دون النفور منها أو طلب الكف عن الحديث لتكاسل جثم على قلبك. تطلب منها المزيد لأن الجميع مرهق ويريد أن يبكي مع من يلبس نفس ثيابه. المزيد من الانكشاف والمضي في تعرية النفس أمام حقائق مكبوتة، لدرجة أنها وضعتني في خيار لابد من التصريح به، بل واتخاذ قرار بشأنه. فحين تجتاحنا فاطمة بكل هذا العنفوان الصادق والتجلي والمواجهة، فهي تشير إلى أقدارنا التي نؤمن بكتابتها ومع ذلك نرفض تلك الحماقة التي اسمها الصبر ونرسل رسائلنا إليه ليباغتنا بالرد وهو يقول: حالاً والآن.. فكل ما نكتبه ونفصح عنه ما هو إلا تعاف وتحرر من ذاكرة تتلاشى وتبدو أكثر وضوحاً حين تلتصق عيناي بعيني من أشار عليّ بقراءتها. حتى تراءت أمامي وكأنها طعم السؤال اليومي عن أحوال الدنيا معي حين يتهدر صوت من أحبه عبر الهاتف الصباحي، وهو يحاول أن يرطب جفوة الأيام بزيت تستخدمه قنديل في نهايات فصولها الروائية. واصدين علينا باباً بأكمله، في متسع من المكان والزمان، نمارس ما ضاق الماضي به علينا، تاركين نوراً طفيفاً في قناديلنا الصدئة.
لقد رسخت الشاعرة المصرية فاطمة قنديل في (أقفاص فارغة) مكانتها الأدبية بقوة في المشهد الثقافي. وهي تتأمل بهدوء نسبي وثورة السنوات التي عاشتها، واضعة نصب عينيها الذاكرة والجندر وقوة البقاء والتشبث وموازنة الفرح مع الجراح والتعب، تراقب الكتابة بلا خوف، والسبب الذي دفعها إلى خوض غمار الرواية وهي في الثانية والستين من عمرها. حيث توجت عام 2022 بجائزة نجيب محفوظ للأدب. استحضرت فيها تجاربها الشخصية متناولة موضوعات الحب والخسائر والخيانة والفقدان، والقهر والتمرد والجرأة والتحديات والخوف الاجتماعي والطبقية والقيود والرقابة. مستندة إلى خيال خصب أشبه بالنواة الصلبة لكل الأحداث وعاطفة شاعرة جياشة، يرافقها مخزون ثقافي ثري تشرَّبته على مدار حياتها المتشعبة. ولعل وصف لجنة تحكيم الجائزة أنصفها حين تلمس حقيقة تصويرها الصادق لعلاقات العنف الكامنة في عائلة مصرية عادية من الطبقة المتوسطة، خصوصاً وأن الرواية جاءت كضرورة وجودية، وحاجة ملحة للسرد عما لا يستطيع الشعر حمله دون أن تقفز في الفراغ أو تبقى عالقة بينهما، فهي ابنة الشعر والنثر معاً. تصف نفسها معلقة على فوزها بالجائزة بأنها لا تزعم أن ما كتبته جرأة، بل هو ذلك الامتياز الذي تمنحه الشيخوخة للكاتب: أن يقول الحقيقة عارية دون مواربة. مضيفة أن حتى نكباتنا منحتنا هبة خفية ألا وهي مرونة القلب وقدرة على النهوض. لكنني رغم كل هذا أتساءل وألح في سؤالي: هل لأقدامنا الثابتة أن تمشي في الظلال؟ وهل لنا أن نتنفس في الماء إذا ما أردنا أن نكتب سيرتنا كما فعلت فاطمة؟ سيرة كتبت من أجل التداوي من الذاكرة لا الخجل منها. بالتخلص منها على ورق يدمينا على الرغم من نعومته وصفائه ورونق النجاح الذي خلصت إليه. ترى لو قرأت قنديل ما فعلته بي وشعرت حق الشعور، هل ستصفني بأنني أمشي عند حافة الأشياء ولصق حافة الأفكار القاسية؟ هل ستشاركني الرأي بأننا ضحايا أوهامنا وبأننا نبني عرائش أفكارنا في الخراب، تلاحقنا المحظورات وترمي تحت أقدامنا نبات الفطر السام، بينما نحلم بالفراديس ونمسك بشرائطها كي لا نسقط دون أن نلتفت إلى ما ترسب في ذاكرتنا. عزيزتي فاطمة، بي عطش دائم وأخشى لو تعفنت أحلامي وضاعت صرخات ولادتي وتبددت ضحكاتي المتقطعة. فاطمة شاعرة وتفهم ما أقول..