مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

المترجم سفير

ما يقوم به المترجم عمل عظيم، أُشير إليه وأُشيد به.
إنه يقوم بدور السفير الذي يحاول أن يربط بين بلدين على كافة الأصعدة، والمترجم هو أشبه بذلك، يربط بين العلوم والثقافات واللغات وهلمّ جرا.
الترجمة ليست مجرد عملية لغوية تهدف إلى استبدال الكلمات بأخرى من لغة مختلفة، بل هي فعل ثقافي وحضاري عميق يُسهم في تشكيل وعي الإنسان وتوسيع آفاقه، فمنذ العصور القديمة كانت الترجمة وسيلة أساسية للتواصل بين الأمم، وبفضلها انتقلت العلوم والفلسفات من الحضارات اليونانية والفارسية والهندية إلى العرب، والعكس صحيح، مما أسهم في نهضة إنسانية شاملة.
في عصرنا الحديث، تزداد أهمية الترجمة مع تسارع التقدم العلمي والتقني، فالمعرفة لم تعد حبيسة لغة بعينها، بل أصبحت ملكاً للبشرية جمعاء. بفضل الترجمة نقرأ أحدث الأبحاث الطبية والتقنية، ونطّلع على الابتكارات الصناعية، ونفهم السياسات العالمية، وهو ما يجعلها أداة لا غنى عنها لبناء مجتمع معرفي متكامل.
كما أن الترجمة تحمل بُعداً إنسانياً رفيعاً، فهي تفتح أمام القارئ أبواب ثقافات أخرى، وتمنحه فرصة العيش في تجارب إنسانية بعيدة جغرافياً وقريبة وجدانياً.
بفضل الترجمة نقرأ أدب العالم، من روايات دوستويفسكي وماركيز إلى قصائد بابلو نيرودا، ونصل إلى فهم أعمق لمشاعر وتجارب الإنسان أينما كان. وفي المقابل، تصل أصوات الأدباء والمفكرين العرب إلى القارئ الأجنبي، ليشارك العالم ثقافتنا وفكرنا وإبداعنا.
أما في حياتنا اليومية، فحضور الترجمة يتجاوز الكتب إلى كل تفاصيل العصر الرقمي، في الهواتف الذكية، في المنصات الإعلامية، في البرامج التعليمية، وفي الترفيه السينمائي والتلفزيوني. هذا الوجود المتعدد يُبرز دورها في جعل العالم أكثر تقارباً، وفي تعزيز قيم التفاهم والحوار بين الشعوب.
إن أثر الترجمة يتجاوز حدود المعرفة إلى بناء جسور السلام، فهي تُساهم في محو الصور النمطية، وتقريب المختلف، وتغذية قيم التسامح.
الترجمة ليست ترفاً ثقافياً، بل هي ركن أساسي في نهضة المجتمعات، ومفتاح لفهم الآخر، ووسيلة لجعل عالمنا أكثر إنسانية وثراءً.
أثر الترجمة يعبر القارات وليس الدول، وهذه المهنة مهمة... مهمة إلى درجة لا يمكن الاستغناء عنها، حتى مع وجود الذكاء الاصطناعي، لأن ليس كل ترجمة مستساغة لدى القارئ.
أتفق مع ما قاله جبران خليل جبران: (الترجمة خيانة جميلة، لأنها تنقل النص إلى حياة أخرى، لكنها لا تنقله بكامله، تترك وراءها شيئاً من الروح الأصلية).
من وجهة نظري، ليس كل نص يستحق الترجمة، على المترجم أن يتبنى المفيد من لغات أخرى، لنتبنى ثقافة منفتحة، لا نتمسك بثقافتنا تمسّك الأعمى، لنفتح نوافذ على ثقافات أخرى من خلال الترجمة، لنأخذ الحَسن من كل مكان ونترك السيّئ.
في تقريرٍ تم رصده عن الحالة الثقافية السعودية لعام 2024، بُيّن أن ثمة تراجعاً في أعداد الكتب الأدبية، بينما الترجمة صعدت، وبلغ عدد الكتب المترجمة 743 كتاباً ضمن مبادرة (ترجم)، وتجاوزت نسبة المترجمات الإناث فيها النصف.
المملكة العربية السعودية تتبنى الترجمة بشكل واضح، من خلال برامج دعم وجهات تتبع الحكومة مثل هيئة الأدب والنشر والترجمة، وهي هيئة حكومية تندرج ضمن هيئات وزارة الثقافة.
هيئة الأدب والنشر والترجمة، بقيادة د.عبداللطيف بن عبدالعزيز الواصل، تقوم بعمل عظيم، وبما أنني أتحدث هنا عن الترجمة تحديداً، ففي هذا العام ساندت الهيئة المترجمين والمترجمات من خلال برنامج يجعلهم يمارسون الترجمة باحترافية، وهو برنامج (المترجم المعتمد)، الذي يهدف إلى اعتماد وتصنيف المترجمين. ومجالات الترجمة متعددة في هذا البرنامج، مثل الترجمة القانونية، وترجمة المؤتمرات، والترجمة الطبية، والترجمة العامة.
ذو صلة