كان فريدريش نيتشه يؤمن أن القراءة الحقيقية ليست مجرد فعل تلقٍّ، بل هي جهد فكري يتطلب تركيزاً ومواجهة مع المعنى. ولم يكن نيتشه يكتب للمتسرعين المتعجلين أو المشتتين، بل للقلّة المستعدة للتأمّل العميق والتغيّر من خلال النص. وفي زمن سمته الاستهلاك السريع والتشتت، تتصدر دعوته إلى القراءة البطيئة المشهد بقوة، خصوصاً في ظل تعالي الأصوات الداعية إلى إحياء هذا الفن، ولاسيما في التعامل مع النصوص الفكرية أو غير الروائية.
بدأ نيتشه مسيرته في مدرسة شولبفورتا النخبوية، قبل أن ينتقل إلى جامعتي بون ولايبزيغ، حيث تتلمذ على يد فريدريش ريتشل، أحد روّاد فقه اللغة. وبفضل نبوغه في مرحلة مبكرة من عمره، عُيّن عام 1869 أستاذاً لفقه اللغة الكلاسيكي في جامعة بازل دون أن يقدّم أطروحة دكتوراه. لكن تحولات فكرية عميقة بدأت تتشكل لديه بتأثير من نظرية داروين ومطالعته أعمال لانغ عن المادية ولقائه بفاغنر واطلاعه على فلسفة شوبنهاور، مما جعله ينصرف تدريجياً عن المسار الأكاديمي الصارم الذي تبناه، ويتخلى بحلول عام 1875عن فقه اللغة بوصفها مجالاً جامعياً.
لكن نيتشه ظل وفياً للقراءة، إذ كان يَعُدها محوراً وجودياً لفكره. ففي كتابه (الفجر) (Daybreak)، وصف نيتشه الخبيرَ بفقه اللغة بأنه (مُعلّم القراءة البطيئة)، مشيراً إلى أن الكتابة المتروّية لا تتحقق إلا من خلال قراءة متأنية. والقراءة، في نظره، تشبه حرفة الصياغة الدقيقة، والفن الذي يتطلب صبراً ودقة وانتباهاً للتفاصيل.
رفض نيتشه الفكرة التي تَعُد القراءة استهلاكاً سلبياً، وانتقد من سمّاهم (القراءَ الكسالى) الذين يقتنصون الشعارات ويهملون المعنى الحقيقي الجوهري. وفي المقابل، شبّه نيتشه القارئ المثالي بصائغ روحي يصقل المعنى على مهل من خلال مجابهة النص. وقد رأى نيتشه أن القارئ النموذجي يجمع بين الفضول والشجاعة والصبر، ونعته في كتابه (هذا هو الإنسان) (Ecce Homo) بأنه (وحشٌ نهِم تقوده الجرأة والفضول).
وفي كتابه (إنسانيٌّ مفرط في إنسانيته) (Human، All Too Human)، عاد نيتشه لتأكيد أن فن القراءة لم يتطوّر إلا ببطء على مرِّ العصور، مشيراً إلى أن العصور الوسطى، رغم حفاظها على التراث، افتقرت كثيراً جداً إلى أدوات التأويل الناضج. لكن جوهر القراءة، كما رآه نيتشه، يكمن في التأمل النقدي وتجنُّب الإسقاطات المتسرّعة أو الفهم السطحي للمادة المقروءة.
إن فقه اللغة بالنسبة له لم تكن مجرد تحليل لغوي، بل كانت تمثّل موقفاً وجودياً ومقاومة ثقافية لزمن السرعة والتفاهة. ومن هنا نشأت لديه فكرة (فقه لغة المستقبل) التي تدعو إلى التحلي مجدداً بالصبر والتعمق في القراءة. ومع ذلك، نبه نيتشه إلى أن البطء وحده لا يكفي، فالقراءة يجب أن تكون فعلاً واعياً، يشارك فيه القارئ بعقله وروحه، لا مجرّد استهلاك للمحتوى.
وفي كتابه (عدو المسيح) (The Antichrist)، يوضح نيتشه أن القارئ الحقيقي هو من يدرك الوقائع دون تحريفها أو الإسقاط عليها، ويحتفظ بقدر من النقد والتأني. ومن هذا المنطلق، كان نيتشه سبَّاقاً في التعاطي مع بعض مشكلات علم اللغة الحديثة، مثل مسألة (سيولة المعنى)، إذ أبرزَ أنّ الكلمات لا تحمل قيمة ثابتة، بل تتحدد من خلال سياقاتها وعلاقاتها داخل النص.
لم يكن نيتشه يؤمن أن الكتب تحمل في طياتها خلاصاً مضموناً، بل رأى أن بعضها قد يُفسد الروح، ويُعزز التفاهة ويُميت الأصالة. لذا، فإن القارئ الحق لا يلجأ إلى الكتب هرباً من الحياة، بل يلجأ إليها كي يواجهها بعين أكثر وعياً وروح أكثر جرأة. ومن هذا المنطلق، تصبح دعوته إلى القراءة البطيئة موقفاً فلسفياً في وجه عالم يقدّس السرعة والأحكام المتعجلة.
أما الدرس الأخير الذي لقننا إياه فكان حازماً وصادماً، إذ يرى أن القراءة الجادة يجب أن تجرح القارئ وتُربكه وتُبدّل حاله. والكتاب الحقيقي لا يُقرَأ التماساً للراحة، وإنما طلباً للمواجهة. وكما قال نيتشه: (من بين كل ما كُتب، لا أحب إلا ما كُتب بالدم). فالقراءة في نظره مغامرة وجودية، لا تُخاض للمتعة وحدها، بل لبلوغ وعي أعمق وتحوُّل داخلي حقيقي.