اللاثقافة ليست نظرية ولا رأياً، إنما هي واقع معيش يعيشه إنسان هذا العصر الذي يسميه بعضهم عصر (الشاشات)، وبعضهم يسميه زمن (التيه) أو كما قال الدكتور حسام السامرائي عندما علق على سؤال مؤدّاه: هل نحن في زمن التيه؟
إن هذا الواقع لم يكن أحد من المفكرين قد توقعه أو تنبأ به، غير أن هناك من قد ألمح لبعض أحواله، مثلما نجد (عند لويس دوللو) في الثقافة الفردية وثقافة الجمهور عندما قال: إن الثقافة في العصر القادم لن تستحق هذا الاسم، لأنها تكون قد تخلت عن المعنى الصحيح، ولن ينقذ تلاشيها إلى الأبد سوى هجوم مضاد ينهض بها من قبل من يعتبر الإنسانية هي القيمة العليا. على أن الخطر عليها يكون من كثرة من ينتمي إليها، والذي سيربو عددهم دون تمييز باعتبار الجنس أو العرق أو الدين، وهنا يظهر خطر أنصاف المثقفين.. (ص13)، أو مثلما نجد عند ماري تريز عبد المسيح في كتابه: قراءة الآداب عير الثقافات عندما قال: سوف يأتي زمان ما، تصير فيه عقول البشر أكثر ليونة، فلا ينحازون إلى ما انحاز إليه آباؤهم. (ص 103 - 104).
إن الواقع المأزوم الذي تعيشه الثقافة الحقيقية لا اللاثقافة، قد أبانت عنه مقالة كتبت في مجلة (آراء ع 24، سبتمبر 2006م) بعنوان: قراءة في ثقافة الغد - هكذا تنبأ (مالرو)، وفيها أن مثقفاً عراقياً كان قد طرح تخوفاً من أن تهاجم التكنولوجيا الأدب فتطحن الفرشاة، ويُترك القلم، ويهجر المبدعون القراءة، وتتحول ثقافتنا إلى أشبه بوصفة طبية. وقد ورد ما يؤيد هذا القول في كتاب (نحو المستقبلية- مدخل إلى دراسة علوم المستقبل) ومنه: إننا نقف على عتبة فاصلة في تاريخ تطورنا، لا بل تدهورنا. وكان (لويس دللو) قد قال: لم يعد عصرنا يتسع للتأمل ولا للكتابات المطولة، فقد فقد الإنسان وقته بسبب وسائل التواصل الحديثة، بحيث أصبح يبحث عن الثقافة المسلّية. وهنا نجد أن سمة العصر الذي سبق عصر الشاشات (السرعة) في كل شيء، حتى ثاب إنسان العصر الحاضر أمام الشاشات التي ضيّعت وقته بلا طائل، وإن كان من أصحاب العقول الراجحة، فقد اكتفى بضغطة الزر لتوفير ما يحتاجه من علم بحيث يجده جاهزاً أو فعلياً كما قلنا من قبل.
إنه وفي العقدين الأخيرين قد انتقلت (الثقافة من مرحلة الصلابة) إلى مرحلة (السيولة)، فظهر زيجمونت بادرمان منظراً لما يسمى بـ(الثقافة السائلة) على ميراث مدرسة فرانكفورت النقدية، فأظهر: الحداثة السائلة، والحياة السائلة والحب السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة والخوف السائل والشر السائل والثقافة السائلة. وقد ترجمها حجاج أبو جبر، ثم ها هي ثقافة الشاشات (اللاثقافة).
إن الواقع ينبئنا أن بعض المثقفين في الشرق والغرب يعيشون في قلق دائم خشية على الثقافة الصلبة، وهناك من يقابلهم بأمور تمهيدية لما هو قادم، فتجدهم يتحدثون عن انفلات المصطلحات العلمية وتأثيرها على العقلية وما تسببه من قلق معرفي بل وتشويش للعقل لعدم استقرارها، فكان القارئ والحال أشبه براكب عربة القطار الذي يرى الصورة ولا يميزها، أو بمن دخل على وليمة منوعة صنوفها وألوانها، فلا يستطيع تذوقها كلها، أو من عاد بلا صيد بعدما تكاثرت عليه، فلم يعد بشيء.
إن حال هؤلاء، كحال الشاعر العربي (امرؤ القيس) الذي قال:
وقد طوفت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب
إنه على إثر ذلك ظهرت (ثقافة العبث)، فقد كتب د. سعدي الإبراهيم في صحيفة المشرق العراقية في عددين مختلفين في أكتوبر من عام 2025م، عن (العبث الجمعي) و(التشتت الثقافي) وفيها: إن التشتت الفكري والذهني سمة من سمات العولمة، بل من سمات العصر الحالي وقد يزداد الأمر سوءاً في المستقبل على أننا في بداية الثورة المعلوماتية. إننا على موعد مع تشتت عظيم. والواقع ينبئنا أننا قد وصلنا إلى هذه المرحلة، وكأن الزمان أسرع مما يراه الكاتب.
إن هذا الذي تحدث عنه الكاتب العراقي هو الذي قد تحدَّث عنه (فرانك فرويدي) في مجلة الثقافة العالمية ع 209 - 2022م، حيث قال إن العقل يعيش عصر التشتت وماذاك إلا بسبب الإنترنت وانتشار التكنولوجيا الرقمية مما جعل الناس محاطين بمصادر لا حصر لها من الملهيات كالرسائل النصية ورسائل البريد الإلكتروني ومشاركة الصور مع الأصدقاء والتدفق السريع لمقاطع الفيديو والعديد من الأخبار. وهذه أمور من الصعب إيقافها خشية فوات أي شيء على عقل أصبح ملكاً لها، ومن هنا فإننا نجد أن من كان مغرماً بثقافة الآخر نجده يتحدث عن (ثقافة التفاهة) وانقراض الثقافة، إلى غير ذلك من الأقوال التي تصف العصر الذي وصفناه بـ(اللاثقافة).
قال تشيسترفيلد: لا أعرف شيئاً أكثر إهانة للشراكة من التشتت وعدم الانتباه. إن تشتت الانتباه مع كسل العقل كلاهما أعداء للمعرفة، على أن عدم الانتباه يؤدي أيضاً إلى تآكل النظام الاجتماعي والأخلاقي.. (ص 75 من مجلة الثقافة العالمية).