إن للغة شأناً وأي شأن في حياة الإنسان وقيام المجتمعات وبناء الحضارات. وإن الله، جل وعلا، قد (علم آدم الأسماء كلها)، أي وهب الإنسان ملكة اللغة التي من أهم وظائفها تسمية الأشياء المحسوسة والمعاني المجردة، فمكنه من التحكم في بيئته والسيطرة على محيطه والتواصل مع بني جنسه وتطوير ما صنعت يداه، ثم اخترع الكتابة فدوّن معارفه شيئاً فشيئاً ونقل تلك المعارف إلى الأجيال اللاحقة، فكان التراكم، وكان التقدم والحضارة.
ويحفل التراث العربي، المكتوب منه والمقول، بألفاظ الحرف والصنائع التي زاولها العرب ومن اختلط بهم في إطار الحضارة العربية الإسلامية.
وإنا لنجد تلك الألفاظ منذ ما قبل الإسلام في شعر الجاهليين وحكمهم وأمثالهم وخطبهم، كما نجدها بعد ذلك في القرآن الكريم والحديث الشريف وما نشأ عنهما من تفاسير ومدونات فقهية وغيرها. وقد حظيت تلك الألفاظ وما يتصل بها بدراسات تناولت معانيها وأصولها وتوزعها الجغرافي.
وعندما بدأت مرحلة تأليف المعاجم اللغوية، كان لرواة اللغة -مثل الأصمعي وأبي عمرو بن العلاء والكسائي وابن الأعرابي.. وغيرهم- اهتمام كبير بألفاظ الحرف والصنائع وما يتصل بها من أدوات ومواد وأساليب صنع وتشكيل. وقد وضع هؤلاء اللغويون، في القرن الثاني وبداية القرن الثالث للهجرة، ما يعرف بـ(الرسائل اللغوية) أو (الكتب المفردة)، مثل (كتاب البئر) لابن الأعرابي (المتوفى سنة 231 هـ/844 م) والذي يشتمل على مجموعة الألفاظ (المصطلحات) المنتمية إلى مجالات مفهومية أساسية خمسة ضمن موضوع البئر: هي أسماء البئر وصفاتها وأجزاؤها وصفات المياه وأدوات استخراج المياه منها. وهذه الألفاظ تسميات دالة على مفاهيم دقيقة، وقد ولدها تعامل العربي في صحرائه مع بيئته الطبيعية واستثماره لها.
وعموماً فإن هذه (الرسائل اللغوية) الكثيرة التي جاءت في النحل والنخل والإبل والخيل والحشرات والنبات والزرع.. وغيرها؛ قد كانت النواة الأساسية التي اعتمدها مؤلفو المعاجم الكبيرة اللاحقة. وقد اعتنت بعض المعاجم اللغوية الكبيرة بألفاظ الحرف والصنائع عناية خاصة، مثل (المخصص) لابن سيده (المتوفى سنة 458 هـ/1066م)، لكن أغلب المعاجم -مثل (لسان العرب) لابن منظور (المتوفى سنة 711 هـ/1311م) و(القاموس المحيط) للفيروز أبادي (المتوفى سنة 817 هـ/1415 م)- قد كانت محافظة صفائية المنحى، فركزت على الألفاظ اللغوية العامة دون ألفاظ الحرف والصنائع الشائعة وقت تأليفها إلا فيما ندر، فحُرم جل ألفاظ الحرف والصنائع من التدوين. لكن كتب الحسبة والرحلات والجغرافيا والتاريخ والموسوعات الأدبية ومؤلفات العرب والمستعربين ومترجماتهم في مختلف العلوم الدقيقة والتطبيقية؛ قد احتفظت بنصيب مهم منها، كما أن العاميات العربية قد استوعبته وبقيت تتداوله إلى يومنا هذا، بل إن هذه الألفاظ الحرفية قد نمت وتزايدت تلقائياً استجابة لحاجة الحرفيين والصناع والمتعاملين معهم إلى تسمية كل جديد مبتكر أو وافد، سواء بلفظ أجنبي أو بلفظ عربي فصيح أو مولد أو عامي.
قضية تدوين وتوظيف الألفاظ الحرفية العربية
في العصر الحديث
كانت ألفاظ بعض الحرف والصنائع موضوع توثيق ودراسة لغوية تاريخية اجتماعية. ونذكر هنا، على سبيل المثال، عملين مهمين هما: (قاموس الصناعات الشامية) و(معجم ألفاظ حرفة صيد السمك في الساحل اللبناني). وفي العقود الأخيرة نشطت مؤسسات علمية وثقافية عديدة، وبخاصة في السعودية ودول الخليج في مجال توثيق ودراسة المأثورات الشعبية والموروث الشفوي، خصوصاً اللغوي منه، ووضعت فيه خرائط وأطالس ومدونات تبشر بأن وعياً جديداً بأهمية هذا الموروث بدأ يتأكد، وبأن توظيف الموروث اللغوي بالذات سيتحقق في تأليف المعاجم ووضع المصطلحات وكتابة تاريخ اللغة العربية ودراسة علاقاتها باللغات الأخرى القديمة والحديثة وفي مجالات التربية والثقافة والفنون والإعلام وغير ذلك من المجالات ذات الصلة باللغة. على أن هذه الجهود الرسمية (المؤسسية) أو الفردية، رغم أهميتها، لا ترقى عدداً ومنهجاً إلى مستوى ما أنجز في اللغات الأخرى، وبخاصة الأوروبية، من بحوث ودراسات في ألفاظ الحرف في إطار علم اللهجات واللسانيات الجغرافية وعلم المصطلح الاجتماعي والإناسة (الأنتروبولوجيا) والأجناسية (الإثنولوجيا).
وإذا لم يكن حظ ألفاظ أو مصطلحات الحرف الشعبية العربية من التوثيق والدراسة كبيراً -وهو ما ترتب عليه حرمان المعجم العربي عامة والتقني منه خاصة من أحد موارده المهمة التي يحتاج إليها لتسمية المفاهيم والوقائع الأصيلة والمستحدثة- فإن الاهتمام النظري بقضية هذا الصنف من الألفاظ، من حيث ضرورة توثيقه وإمكانات استخدامه وإثرائه للمعجم المكتوب؛ كان اهتماماً جدياً واضحاً. ذلك أنه من بين القضايا التي أثارها الجدل الذي لا يزال دائراً في إطار حركة إحياء اللغة العربية وترقيتها، ما تتصف به المعاجم العربية من عيوب كثيرة، أبرزها تقليد بعضها بعضاً في مستوى الثروة اللفظية، إذ يعمد اللاحق منها إلى نقل ما جاء في المعاجم السابقة له عملاً بمبدأ (الفصاحة) الذي جعل من لغة عصر التدوين (سلطة مرجعية قاهرة) على حد عبارة محمد عابد الجابري. وهذه النزعة التي استفحلت بمرور الزمن قد أدت -حسب عبارة محمد فريد أبو حديد- إلى أن اللغة العربية منذ استقرت فقدت كثيراً من المرونة الضرورية لتطور اللغات، ولا سيما فيما يتصل بالحياة اليومية والمعاملات، فنشأ من ذلك شيء من الانفصال بين لغة الثقافة والأدب والفكر، وبين لغة الأسواق والمعاملات اليومية وما إليها.
ونجد مثل هذا الموقف في مقدمات معاجم لغوية عربية عديدة، وإن لم تطبقه إلا جزئياً وباحتراز كبير. وإن الشعور بالخطر الذي قد يهدد اللغة العربية بسبب النزعة المحافظة التوقيفية التي ربطت الفصاحة بمكان وزمان معينين، وجعلت من المعجم العربي معجماً لاتاريخياً معاكساً للزمن؛ هو الذي دفع المستشرق رينهارت دوزي إلى وضع معجمه الشهير في نهاية القرن التاسع عشر ليكون (تكملة للمعاجم العربية). ونجد الموقف نفسه لدى أوغست فيشر في المقدمة التي وضعها لمشروعه المعجمي الضخم (المعجم اللغوي التاريخي)، فهو يعتبر أن جميع الكلمات المتداولة في لغة ما لها حقوق متساوية فيها، ويرى أنه لكي يكون معجم اللغة العربية الفصحى ملائماً للتطور العلمي للعصر الحاضر يجب أن يشتمل على كل كلمة -بلا استثناء- وجدت في اللغة.
والحق أن العلاقة بين العربية الفصيحة المكتوبة ولهجاتها المقولة قضية قديمة، كانت من مشاغل المعجميين والبلاغيين والنحاة منذ عصر تدوين اللغة. وقد تركز الاهتمام على اللغة العربية الفصيحة بحكم صلتها الوثيقة بالدين، خصوصاً باعتبارها لغة القرآن الكريم، ولم تدرس اللهجات غالباً إلا من باب حماية الفصحى، ولم تعتبر تطوراً طبيعياً للغة العربية الأم، بل تشويهاً لها وفساداً دخلها. إلا أن التطور الذي عرفته الدراسات اللسانية في العالم العربي أدى إلى ظهور تيار جديد يدعو إلى دراسة اللغة العربية بكل مستوياتها، بما في ذلك المستوى المقول أو العامي، دراسة وصفية لا معيارية، والاستفادة من كل طاقاتها وإمكاناتها بحسب ما يتطلبه ويسمح به هذا المجال أو ذاك.
مجمع اللغة العربية بالقاهرة وتوظيف الألفاظ الحرفية
لقد كان لمجمع اللغة العربية بالقاهرة الفضل الكبير في توفير المناسبات الملائمة لهذا الحوار الرسمي، الأول من نوعه في تاريخ العربية، وما امتاز به من جدل ووحدة في قضية الازدواجية اللغوية وعلاقة العربية الفصحية بالعربيات العامية، خصوصاً على مستوى المعجم. ونشير هنا إلى أن الفقرة الثالثة من المادة الثانية من مرسوم المجمع قد نصت على أن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة بمصر وغيرها من البلاد العربية. وقد شكل المجمع لجنة خاصة باللهجات، واطلع على نماذج من الأطالس اللغوية والمصطلحية الحرفية الغربية، وأصدر قرارات مهمة تندرج ضمن الغرض المشار إليه، وكانت كفيلة بإحداث ثورة حقيقية في الدراسات العربية اللهجية والمعجمية والمصطلحية لو كتب لها أن تطبق.
وتكمن أهمية هذه القرارات المنهجية في تجاوزها العملي الإيجابي لتصور خاطئ لعلاقة العربية الفصيحة بالعربية العامية وللثنائية الانفصامية بين الفصيح وغير الفصيح، وفي رد الاعتبار إلى اللهجات العربية قديمها وحديثها، من حيث كونها ظاهرة لغوية جديرة بالتوثيق والتدوين، وليست مسخاً وتحريفا للغة العربية الفصيحة تجب مقاومتهما. بل إن من قرارات المجمع الأخرى ما يدل على أنه يعتبر معجم اللهجات العربية ثرياً في مجالات يكاد يختص بها وقادراً، بالتالي، على أن يسد ثغرات ماثلة في معجم العربية المكتوبة، وعلى أنه يعترف بضرورة اعتماد الاستعمال مصدراً من مصادر المعجم العربي عامة، والعلمي والتقني منه خاصة.
ومن القرارات المشار إليها قراران بالغا الأهمية: نص أولهما على التوصية بإيفاد بعثة إلى جزيرة العرب وبادية سينا والصحراء الغربية بمصر لدراسة الشجر والنبات وتحقيق ما ورد منها في معاجم اللغة والنبات، ونص ثانيهما على أن المجمع يعنى بجمع المصطلحات الفنية التي يستخدمها العمال في مصانعهم، والتجار في متاجرهم وأسواقهم، والزراع في مزارعهم، حتى إذا اجتمعت له طائفة صالحة من هذه المصطلحات نظر في وضعها في معجمه بعد صياغتها وفق الأوزان العربية. ولقد كان لهذه القرارات الجريئة التي أصدرها مجمع اللغة العربية بالقاهرة صداها الواضح في عدد من المعاجم العلمية والتقنية التي اعتمد مؤلفوها الألفاظ المولدة والعامية مصدراً من مصادرها، ومن أهم هذه المعاجم وأدقها وأشهرها (معجم الألفاظ الزراعية) لمصطفى الشهابي، أحد رواد المعجم العلمي العربي الحديث والرئيس الأسبق لمجمع اللغة العربية بدمشق.
الخاتمة
لا جدال في أن الموروث الشعبي ذاكرة الأمة الحية وجوهر هويتها الثقافية وتجسيد لخبراتها وتصوراتها عبر العصور. ويعد الموروث اللغوي عامة والمعجمي منه خاصة ثروة لغوية ذات أبعاد حضارية متنوعة: تاريخية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية. وقد عبرت اللغة العربية عن كل عناصر البيئة العربية، الطبيعية منها والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، فسمّت كل ما كان يتعامل به العربي من مواد وأدوات وآلات وأساليب.. وبذلك تكونت الألفاظ الحرفية التي استبعدتها، في الغالب، المعاجم اللغوية لتقيدها بالفصاحة التقليدية ولموقفها المحافظ من تطور اللغة. ولئن انقرضت ألفاظ حرفية كثيرة قديمة لأنها لم تنل حظها من التوثيق والتدوين، وتلك خسارة كبيرة فيها تضييع لجزء مهم من ذاكرة الأمة؛ فإن الألفاظ الحرفية الشائعة لدى المحدثين في كل الأقطار العربية جديرة بأن تُجمع وتوثق وتُدرس الدراسة العلمية اللغوية والحضارية أولاً، ولينظر في إمكانيات استخدامها وإثرائها للمعجم الحرفي والتقني والعلمي العربي الحديث ثانياً.
المراجع:
محمد سعيد القاسمي وجمال الدين القاسمي وخليل العظم: قاموس الصناعات الشامية، حققه وقدم له ظافر القاسمي، طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق 1988، 535 ص + 39 ص بالفرنسية.
ألبير مطلق: معجم ألفاظ حرفة صيد السمك في الساحل اللبناني - دراسة لغوية تاريخية، مكتبة لبنان، بيروت 1973، 295 ص، 15 ص بالفرنسية.
محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، ط3، الدار البيضاء 1987 (351 ص) ص 92).
محمد فريد أبو حديد: موقف اللغة العربية العامية من اللغة العربية الفصحى، مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، العدد 7/1953، ص 205 - 229.
مجمع اللغة العربية بالقاهرة: مجموعة القرارات العلمية التي أقرها المجمع في خمسين عاماً 1934 - 1982، أخرجها وراجعها محمد شوقي أمين وإبراهيم الترزي، القاهرة 1984، (326 ص)، ص 234 و240.