على ناصية حارة من حواري الدمام القديمة شاهدته يجلس على مقعدٍ خشبيٍّ يراقب المارة وهم يمرون ببطء، عيناه الغائرتان في وجهٍ منحوتٍ بخدوش الدهر، تلاحقان كلَّ خطى تبحث عن شبحٍ مفقودٍ في غبار السنين.
أيقظ فضولي الخفي، اقتربتُ منه، وسألته عن سبب هذا الجلوس، وهذا الأنين الذي يشبه حفيفَ ريحٍ في أغصان الشجر. ابتسم ابتسامةً شاحبة، ثم قال: يا ولدي، لي مع الحياة قصة طويلة. ثم انساب الكلام بيننا كنهرٍ جارٍ.
كان عليٌّ يملك متجراً صغيراً على هذه الناصية نفسها، دكاناً يبيع فيه التمرَ والدهنَ والمرةَ والزعفرانَ والبنَّ والهيلَ وغيرَ ذلك من الحبوب. عندما ينفد المخزون، يشدّ الرَّحْلَ مع صديقه (عيسى الأشول) صاحب السيارة النقل، صوب الأحساء مع بزوغ الفجر. كانت الطريق رحلةً بحد ذاتها، تملؤها الأحاديث والمشاكسات والضحكات، حتى تتحول المئة والخمسون كيلومتراً إلى حكاياتٍ ممتعة. مع الوقت اعتمد عليٌّ على عيسى في كل رحلة، رغم تأخر عيسى أحياناً وما يسببه من ضيقٍ للزبائن، لكن كان حضورُه يذيب التوتر مثلما تذيب الشمسُ ضبابَ الصباح.
في الأحساء ينتظرهم متجر (ابن عبيد)، يشتري عليٌّ البضاعة ويعود إلى دكانه، تكفي البضاعة ثلاثَ جمعٍ، وفي المواسم جمعتين. عليٌّ اعتاد على ابن عبيد ولا يرى سواه، يدفع له نصف الأجر مع تحمُّله مصاريف الطريق، وفي المرة اللاحقة يدفع النصف الآخر. سارت الأمور هكذا لسنوات.
غير أن هذا الإيقاع انكسر فجأة، حين وصل عليٌّ ذات صباح ووجد دكانَ ابن عبيد مغلقاً. انتظر يوماً ويومين، ثم أسبوعين بلا جدوى، حتى جاءه الخبر: رحل ابن عبيد إلى المدينة المنورة، وهناك أسلم الروح. كان الخبر صاعقةً، جلس عليٌّ تحت مظلة دكانه يستند إلى الجدار، وجهه شاحب، وعيناه فارغتان.
بعد موت ابن عبيد انتقلت التجارة إلى أبنائه الذين غيّروا النشاط إلى متجر أجهزةٍ إلكترونية. أبناءُ ابن عبيد عرضوا على عليٍّ أن يعمل معهم موزعاً، فرفض عليٌّ قائلاً إنه لا يعرف غير ما يتاجر به، ولا يفقه غير هذه العادة.
مع الأيام نفدت بضاعته وتدهورت أحواله المالية، فترك التجارة وجلس خاليَ اليدين، وها هو يجلس جلسةَ طائرٍ مقصوصِ الجناحين.