-1 في الحكاية الشعبية
تنبع الحكاية الشعبية من الوعي، وتصدر عن اللاشعور الجمعي. وتعرف بكونها «الخبر الذي يتصل بحدث قديم ينتقل عن طريق الرواية الشفوية من جيل لآخر، فإذا بها خلق حر للخيال الشعبي ينسجه حول حوادث مهمة وشخوص ومواقع تاريخية». فالحكاية الشعبية بهذا المعنى، حكاية تُنقل مُشافهة وتتوارثها الأجيال، لا تُنسب إلى مؤلف واحد، ولا يُعرف صانعها، تُروى في المكان الواحد بطرق مختلفة، وهو ما يمنح راويها هامشاً من الحرية في التصرف والتعبير، ويمكّن مؤديها من إدخال محسنات بلاغية أو تشويقية، لا تقطع تماماً مع الحكاية الأصلية بقدر ما تُثريها. ففي مقدور أي راوٍ الحذف والإضافة وفق ما تُمليه عليه ذاكرته، وما يشد أسماع المتلقين. وعلى هذا السمت تتميز الحكاية الشعبية بطابعها التفاعلي، إذْ «يستمتع الشعب بروايتها والاستماع إليها إلى درجة أنه يستقبلها جيلاً بعد جيل عن طريق الرواية الشفوية». فالحكاية الشعبية إذنْ «ميراث يُحفَظ، ويروِي آثار الأجداد». إنها سرد غريب يهدف إلى الإمتاع، وقد يرمي إلى الوعظ والتعليم. وتأكيداً على هذا الذي ذهبنا إليه في حدها، يعرفها معجم روبار الصغير بأنها سرد وقائع ومغامرات خيالية تُروى لتمتع. واضح إذن أن الحكاية الشعبية هي «أحدوثة يسردها راوية في جماعة من المتلقين، وهو يحفظها مشافهة عن راوية آخر، ولكنه يؤديها بلغته، غير متقيد بألفاظ الحكاية، وإنْ كان يتقيد بشخصياتها وحوادثها ومجمل بنائها العام».
تدور الحكايات الشعبية العجيبة في الزمن السرمد، المطلق. ويكون أبطالها من البشر ممن يتواصلون مع حيوانات غريبة وشخوص لا بشريين من سحرة وغيلان وكائنات خارقة (Surnaturels)، ويستعينون بأدوات عجيبة لتحقيق الغلبة والنصر، بعد أن يجتازوا سلسلة من الاختبارات الترشيحية والتمجيدية. ومن مميزات الحكاية الشعبية أنه لا صاحب لها، تتناسل بالرواية والمشافهة جيلاً عبر جيل، إلى أنْ يجمعها جامع، ويقيدها المدونون.
تروي العجائز والجدات الحكايات ليلاً للعظة والاعتبار ولضرب الأمثال وتعليم السامعين. فالمرأة المسنة رمز التجربة والحكمة قادرة على «السرد، لأنها تحذق قواعده وأسسه». ولا تُروى الحكايات إلا تحت ستار الليل، وفي غياهب العُتمة في جو من التهيؤ. تمتع الأحفاد المستمعين إلى أنْ يغالبهم النعاس. ولهذا تسرد بلغة خاصة وبتنغيم صوتي، يُلائم أعمال الحكاية القولية، وتستنفر في روايتها أعضاء الجسد في ضرب من التشوير الإيمائي، غايته الإيحاء والتأثير والانفعال. فالحكايات الشعبية العجيبة الغريبة هي ضرب من «الأباطيل المستملحة، يُقصد بها الإمتاع والمؤانسة». ويعرف الناصر البقلوطي في مقدمة حكاياته الشعبية التي جمعها، الحكاية الشعبية الخرافية بكونها «خطاب شفوي يجمع بين باث ومتلقٍ، يُؤسِّسُ عند الجماعة المعنية تفكيراً ذاتياً، ويُجسِّدُ منظومة القيم التي تنظم علاقات أفرادها بعضهم ببعض، ويعبِّرُ عن مشاعرهم ووجدانهم».
-2 في مفهوم العجيب والغريب
جاء في معجم مقاييس اللغة لابن فارس (توفي 395 هـ) قوله: «وزعم الخليل أن بين العَجِيب والعُجَاب فرقاً، فأما العجيبُ والعَجَب مثله، فالأمر يُتعجَب منه. وأمَا العُجَاب فالذي يجاوِز حد العَجِيب». وكما يقول محمد حسين فنطر، فعالم الحكاية الشعبية «عالم عجائبي، تتجلَى فيه تجربة الإنسان في أزمنة مختلفة ومتعدِّدة». وأما مفهوم الغريب، فهو كل «عجيب غير مألوف، فذ نادر، عزيز، قليل الوجود، فريد، وحيد، شاذ». ولهذا التصق العجيب (Merveilleux) بالحكايات الشعبية، وهو مفهوم يقابل العادي والواقعي، وفيه بعض من معنى المبهر (Etonnante)، والمحبب (Admirable). وترتبط الغرابة بالخوف والهلع، وتتعلق بغير المألوف، المثير للفزع والرعب، وهي في علاقة بكل ما يبعث على الوحشة والتوحش. والحكاية الشعبية حكاية تسرد الخارق المرعب، وتُفصح عن مشاعر الفزع والخوف وجو الرعب والعوالم غير المألوفة، كما يُشدد على ذلك لافكرافت (Lovecraft). فللحكاية الشعبية حينئذ علاقة بالغرابة وسرديات الخوف والظلام. فالغرابة حاضرة في الحكايات الشعبية تعبر عن حجم هذا الواقع الكثيف المعقد. ينفتح العجائبي على الحلم وعلى عالم المنام، وله وشائج قربى باللاوعي واللاشعور، فهو إذن غير واقعي وله منطقه الخاص.
ولقد مكّن استعمال العجيب والغريب في الحكايات الشعبية من ميلاد مفهوم الفانتاستيك (Fantastique) الذي قدم وجهة نظر مغايرة عن الأشياء، حطمت «الرؤية التبسيطية الفاصلة بين الواقع واللاواقع، بين المرئي واللامرئي». ويبدو أن الكتابة «المتشبعة بروح الفانتاستيك مغامرة واستجلاء للبقايا والهوامش والمقصي من كينونتنا المحاصرة بضغط القوانين والمحرمات وشتى أنواع الرقابة». وبهذا الاعتبار تميزت الحكاية الشعبية العجيبة بأحداثها الغرائبية التي فارقت العقل وجانبت المنطق، وهدمت الحدود بين الداخل والخارج، بين الماضي والحاضر، والحي والميت، والجامد والمتحرك، والحلم والواقع. ولهذا تقدم الحكاية الشعبية العجائبية شخوصاً بشرية يقطنون مثلنا «العالم الذي نحيا فيه، ولكنهم يُوضعُون فجأة في حضرة عالم عجيب يستعصي على التفسير». وإذا ما عرفنا الحكاية الشعبية وحددنا العجيب والغريب فيها، فما خصائصها المائزة التي تفردها جنساً أدبياً شفوي المنشأ شعبي المصدر كوني الخصائص والسمات؟