مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

الطّعام الاحتفالي علامة حفاظ على الموروث الشّعبي

الجدل بين المحلي والكوني اليوم
إن الناظر في صور الإنسان الحديثة اليوم يقف عند جملة من الملاحظات، لعلنا نذكر من بينها سقوط الحواجز الجغرافية -ولو نسبياً- إذ صارت الملامح الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية تتشابه إلى حد ما مع (إنسان العالم) الذي أصبح يذوب في منوال عيش واحد تقريباً، أسهمت في صناعته الوسائط الرقمية والتكنولوجيا والسفر وغير ذلك من العوامل في زمن العولمة. لكن رغم ذوبان الإنسان شمالاً وجنوباً في منظومة قيمية كونية تتقاطع فيها المفاهيم من ناحية وتتعارض فيما بينها من ناحية أخرى -لأن صانع هذه النظم هو الأقوى الفاعل دائماً ومتبنيها هو التابع المنفعل في أغلب الأحيان- لا ينفي أبداً ميل الإنسان نفسه إلى الحفاظ على خصوصيته أينما حل، داخل العوالم المحلية والأوطان أو حتى في عوالم المهجر والرحلة، حرصاً منه على حماية هويته التي هي نتاج طبقات متراكمة من الإرث المؤسس للذاكرة الجماعية في مجتمع ما: فـ«لكل شعب من شعوب العالم تقاليده وعاداته، تميزه عن باقي الشعوب، وكثيراً ما تكون هذه العادات وليدة حكايات شعبية، أو أساطير يتناقلها الأحفاد عن الأجداد، ويتمسكون بها خوفاً من ضياعها في متاهات التقدم والحضارة».
الاحتفال العربي ومحاولة إحياء الموروث الشعبي
في هذا السياق سنركز الاهتمام على علامات حضور تشبث الإنسان العربي بمخزونه، وبخاصة لحظات الاحتفال، وهل نستطيع الاحتفال بغير ألواننا من الفرح العربي بخوراً وحلياً ولباساً وطعاماً وغناء؟ لا نظن أن السعادة تعرف طريقها إلى القلوب العربية دون المرور بالطرق القديمة/الجديدة التي لا تُمحى حتى ونحن نسلك مسارات المعاصرة «لأن هذه الخصوصيات والهويات القومية والدينية الثقافية هي في تقديري الاستمرار الثقافي لحضارات قديمة تحللت وأخذت تطغى عليها الحضارة الرأسمالية الراهنة. ولهذا تبرز في هذه الخصوصيات الثقافية الدعوة إلى محاولة إحياء القديم والبحث عن الجذور، والتمسك بالثوابت والأصول الأولى لحضاراتها القديمة». وذلك كي لا تصير الذوات البشرية عبارة عن نسخ مشوهة لذوات أخرى غريبة عنها لا تتماثل معها ولا تمثلها، لذا تسعى دائماً إلى نقل «البقايا السلوكية والقولية التي بقيت عبر التاريخ، وعبر الانتقال من بيئة إلى بيئة، ومن مكان إلى مكان في الضمير العربي للإنسان المعاصر». «فالإنسان عامة له طبيعة تخصه إلا أنه داخل هذه الطبيعة الموحدة المشتركة، هناك التنوعات والاختلافات في اللون والعرق والمنشأ والعادات والثقافات وأشكال العمل والحياة والممارسات والعلاقات والأبنية المجتمعية ومستويات المعيشة». بمعنى آخر قد يضطر العربي أحياناً إلى العيش داخل جغرافيات غربية، للعمل أو الدراسة أو البحث. وقد يستحسن اللغات والأذواق والفنون الغربية أيضاً، غير أنه عندما يريد التعبير عن فضائه النفسي والوجداني سيجد نفسه يَعْدل عن المتواتر والمتكرر الأجنبي في عصرنا لينهل من عمق أعماقه العربية في تعبيرات مرئية ومسموعة تستجيب إلى الذائقة التي يصدر عنها أصالة وتجذراً.
تشبث العرب بموروث الطعام في أزمنة الاحتفالات الاجتماعية
لا يعتبر الطعام مجرد أصناف من المأكولات أو المشروبات التي نتناولها طازجة ومطبوخة ساخنة وباردة لحظات الجوع والعطش فحسب، بل الطعام هو علامة من علامات الثقافة وضرب من الصناعات والفنون، وقانون تواصل بين الأفراد والجماعات، وصدى للعاطفة والحب والاهتمام، فـ«لا حياة دون أكل وشرب، ولا أكل وشرب دون اجتماع، ولا اجتماع دون قواعد وطقوس، ولا طقوس دون معتقدات ورموز. ولا مادة دون تمثل وتصور. وهذه المادة تتراءى للإنسان في أحلامه طعاماً وشراباً منذ القدم». «في الفضاء اليومي يعمل الناس، ينتجون الغذاء ويلبون الحاجات ويحققون الرغبات. وفيه يكون الأكل والشرب وارتداء الثوب والاستحمام والنوم والحب، ويكون المرور والعبور والاجتماع واللقاء والمحادثة، فتكون الحياة العادية». أما في الفضاء الاحتفالي يسعى الناس إلى التجرد من الهموم ولبس السرور، فتكون الحياة مبهجة في انفلات من جدية المشاغل والالتزامات العديدة.
في ألوان الأطعمة الاحتفالية العربية
عُرفت المجتمعات العربية المشرقية والمغاربية على حد السواء في زمني الماضي والحاضر بالسخاء والكرم والضيافة، فكان الأكل والشراب من الوسائل المهمة التي عنيت بدلالات الضيافة والحفاوة والرعاية والحفاظ على الصحة. فكان لكل مناسبة من مناسبات الاحتفال طعامها وشرابها تحت اسم كبير هو الوليمة: و«إن الوليمة أطلقت في التراث العربي على طعام العرس وعلى غيره من أطعمة المناسبات. فاقترنت بعبور جسدي/اجتماعي (الخرس والعقيقة والإعذار والإملاك والعرس والوضيمة)، وعبور معرفي/ديني (ذو الحذاق) وانتقال في المكان (الوكيرة، النقيعة) والزمان (العقيرة). ولا يستغرب، إذا ما تأملنا في معنى الولم الذي أورده ابن فارس، أن تطلق الوليمة على كل احتفال بحدث يكون الطعام فيه عقداً جامعاً بين الناس يشدهم كالحزام شداً، ويربطهم كالخيط ربطاً. فتلك وظيفة الطعام الاجتماعية».
ومازلنا إلى الألفية الثالثة نحافظ اليوم على هذه الممارسات التليدة، وما ثباتها حضوراً إلا إشارة أكيدة على مدى تعلق العربي بها تبركاً وانسجاماً مع صورته الحقيقية، فقد تُنسى الأسماء أحياناً كالنقيعة والشندخ والوكيرة والعقيقة؛ لكن بقيت بآثارها محفوظة، وبخاصة عندما نقول إننا في تونس مثلاً إلى حدود الآن مازالت ترتبط أفعال العودة من السفر والفراغ من البناء والخطبة والعرس والولادة والنجاح والختان بفعل الذبيحة خروفاً أو شاة أو عجلاً، وبعد الذبيحة تتعالى الزغاريد وتنتشر رائحة الطبخ: كسكسي باللحم والسلطة المشوية والطاجين والملوخية.. أطباق تعزز الانتماء إلى العائلة وتوطد الصلة بين أفرادها، فالتشارك في الطبخ والأكل والتنظيم والترتيب هي تفاصيل ترقى إلى مستوى اللغة التواصلية التي تزيل كل الحواجز وتزيح رتابة اليومي وقلقه وضجره وتمنح كل الحاضرين شحنة معنوية للمضي قدماً نحو مواجهة صعاب الحياة بعد فسحة الابتهاج.
أما بالنسبة إلى النفساء فهي المرأة التي أعلنت فعلاً عن ميلاد الحياة غبطة بمولود جديد. ويجب أن يكون الاحتفال بها وبمولودها كالعادة من خلال رمزية الطعام ونفعيته، فـ«تعصد العصيدة من التمر كما يصنع الخبيص من الدقيق والعسل والتمر. وتطعم المرأة تمراً أول ما تلد، فتطعم مما تساقط على مريم بنت عمران، وتكون كل خرسة في متخيل المسلمين (خرسة مريم)، اقترن الرطب بها كما اقترن التمر بغيرها من النساء. تطعم النفساء من ثمر شجرة عشتار المقدسة، شجرة الحياة والولادة تلك الشجرة التي يكون فيها (غلاف كالمشيمة)، فتختص باللقاح، وتسمن سمن حواء، وتحمل حملها، وتعقم عقمها، وتعشق عشقها، وتمرض مرضها، وتداوي مداواتها»، هكذا يكون الاحتفاء بالمرأة بعد الولادة احتفاء يليق بها. فالمرأة تحتفي بالرجال والنساء والصغار والكبار طيلة حياتها وأيامها، فهي النسيج الرابط لمكونات الأسرة، أُماً تفيض أمومتها على الجميع وتحرص على تمرير العادات والتقاليد من السابقين إلى اللاحقين، كي لا يأكل نسق العيش السريع محبتنا، فكانت عادة الاجتماع في منزل العائلة الموسعة من العادات المهمة في عطلة نهاية الأسبوع أو في الأعياد والمناسبات: بتناول الأغذية التقليدية كالكسكسي والأرز والكبسة.. وغيرها، وشرب الشاي والقهوة وأكل الكنافة والمقروض والكعك: أطعمة مالحة وحلوة تزيد من طول النفس العربي الراسخ فينا وفي نسلنا.
المورث الشعبي العربي مادة ملهمة للجيل الجديد
قد يُتهم الجيل الجديد باطلاً بكونه لا يعتني بالإرث الشعبي الذي حملته الأجيال السابقة وصولاً إليه؛ لكننا نرى أن الجيل الجديد قد طوع كل الوسائل المتاحة أمامه لحماية هذا الموروث من جهة والتعريف به من جهة أخرى بالداخل والخارج، من خلال توظيف المجالات والمنصات الرقمية التي استوعبت: الموسيقات والأغاني الشعبية، اللباس التقليدي، العطور الشرقية، الحكايات الشعبية، الأطباق التقليدية.. وغير ذلك من المواضيع، صوتاً وصورة حتى لا يجف نبع الذاكرة من هذه المكونات. بل لا يفوتنا أن ننتبه أيضاً إلى قدرة الشباب على الاحتفال مزجاً بين لونين اثنين: الحداثة والأصالة بطريقة تقوم على اللطف، وتعزز السعادة في صفوف المحتفلين بلوحات فسيفسائية من الفرح.

ذو صلة