مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

العُصبان التونسي.. تاريخية طبق مغاربي

(مما يهتزُ إليه الكريمُ الاهتمامُ بالأغذيةِ والتأنقُ في طبخِها
على ما تقتضيه الصَنْعَةُ المُجَرَبَةُ من الإحكامِ والإتقان)
| ابن رزِين التُجيبي، فضالة الخوان |
يعد العُصْبان من ألوان الطعام العريقة في المطبخ المغاربي، وهو من الأطباق التقليدية التي تحمل قيمة رمزية وثقافية عميقة لارتباطها عموماً بالمناسبات الاحتفالية الدورية للعائلة المغاربية الممتدة، سواء أكانت هذه المناسبات دينية أم اجتماعية، ولاسيما خلال طقوس العبور، ناهيك أنها تتحول في عيد الأضحى، مثلما هو الشأن لدى عموم العائلات التونسية، إلى نوع من المُفضل الطهوي المُشترك في فاخر الطعام، وبالاستتباع عنوان لهوية مغاربية موحدة في التراث الغذائي وفنون الطبخ.
-1 تنوع الدوال ووحدة المدلول
العُصْبان طبق من التراث الغذائي المغاربي القديم، المرتبط بالمطبخ التقليدي، وتقاليد المائدة التي توارثتها الأجيال المتلاحقة عبر حقب التاريخ المتعاقبة، على أن تسمياته تماماً مثل وصفاته ومكوناته وحتى أشكاله، تتنوع ليس فقط من بلد إلى آخر وإنما أيضاً من جهة إلى أخرى داخل البلد الواحد. فإذا كان هذا الطبق يعرف أساساً في تونس وليبيا بتسمية أساسية موحدة وشائعة هي العُصبان، بضم العين، فإن أنواعاً منه تعرف بتسمية مغايرة هي الكركوش، والزايد، والمبعر المحشي، كما هو الحال في صفاقس، والعُصبان الشايح، وعُصبان الشوابي (المهدية) وعُصبان الهجالة، وعُصبان الشمس، والضباحية (باجة).. إلخ. على أنه يعرف في سائر البلدان المغاربية الأخرى بتسميات مغايرة، هي: الكرداس في المغرب الأقصى، والعَصْبَان، بفتحة على العين، والكرشة المحشية، أو عصبان الكرش، أو أيضاً البكبوكة، وهي التسمية المتداولة في الغرب الجزائري، أما في التاشلحيت أو الشلحة القبائلية فتدعى تاعصبنت (هل تكون هذه الصيغة هي أصل تم تعريبه بلفظ عُصبان؟) أو التاكوربابت أو أيضاً التيكوربابين، وهي تسميات مستمدة من أحد أكثر أشكال العُصبان شيوعاً هو الشكل المستدير. فهل معنى ذلك أن هذا الطبق التقليدي يعبر عن خصوصية طهوية حصرياً مغاربية؟
ذلك ما يحتاج في الحقيقة إلى مزيد من التريث والتأني، لاسيما متى عرفنا أن العُصبان التونسي والمغاربي عموماً، وإن كان مختلفاً عن المقانق أو النقانق والسُجق المشرقية إلا أنه شديد الشبه بمكونات وطرق إعداد ما يعرف بالمُمبار في مصر، وما يعرف بالشخاتير في فلسطين، وما يعرف بالقبوات أو السندوانات في مائدة بلاد الشام أو أيضاً الفوارغ أو الطراف، فهل معنى هذا أن هذا الطبق التقليدي ليس فقط من الموروث الغذائي المغاربي وإنما من الموروث الغذائي المشرقي بما يجعله معبراً عن هوية طهوية عربية موحدة، وحدة تنوع لا وحدة تماثل؟
-2 إيتيمولوجيا المصطلح
لا نقف على كلمة عُصْبَانْ في المعاجم اللغوية العربية الموارد، على غرار (لسان العرب) لابن منظور (ت1311م) و(القاموس المحيط) للفيروزأبادي (ت1329م) أو (تاج الصحاح) للجوهري (ت1003م) أو أساس البلاغة للزمخشري (ت1143م) أو تهذيب اللغة للأزهري (ت 981م) أو مختار الصحاح للرازي (ت1269)، لا بصيغة المفرد (العُصبان) ولا بصيغة الجمع (العُصَبُ).
على أن هذا لا ينفي إشارة المعاجم اللغوية إلى طبق العُصبان بمشتقات اسمية متصلة بالجذر نفسه أي (ع.ص.ب)، ولكن بصيغ اشتقاقية مختلفة منها صيغة جمع هي العُصَبُ، وواحدتها عُصَبَةٌ، والأَعْصُب، (يقال لأمعاء الشاة إذا طويت وجُمعت وجُعلت في حوية من حوايا بطنها عُصَبٌ، والعصيب من أمعاء الشاة: ما لُوِي منها، والجمع أعصبة وعُصَبٌ)، على أن هذه الصيغ الاشتقاقية على تنوعها تشترك جميعاً في معاني الطي الشديد واللي وضم ما تفرق وجمعه، وشده إلى بعضه البعض وإعطائه شكلاً مستديراً، يقول أبو سليمان الخطابي (ت988م) في (معالم السنن): العُصَبُ هي أطناب مفاصل الحيوانات، وهو شيء مدور، وفي المعاجم لحم عصيب: صلب شديد، وعصب الشيء عَصْباً: طواه ولواه وقيل شده، وعصب الشجرة: ضم ما تفرق منها بحبل وجمعه وشده إلى بعضه البعض بحبل شداً شديداً. ومؤدى هذه كله أن للتسمية جذوراً تتصل بمختلف المراحل التي يقتضيها إعداد هذا الطبق التقليدي والشكل الذي يعطى له ويقدم به.
بالمقابل نجد الكلمة مذكورة حرفياً وبالصيغة التي ننطقها بها نحن اليوم في تونس، وهي عُصْبَان، في المصادر التاريخية، والمصادر الإباضية المغاربية تحديداً على غرار (كتاب السيَر) للشماخي (ت1522م) منذ القرن 4 هـ/10م.
-3 تاريخية طبق العُصْبَان
إذا كان الباحث الفرنسي جوزيف ديبارينات Joseph Desparinet يشير في كتابه (كتاب الفوائد في العوايد والقواعد والعقائد) الصادر بالبليدة، عام 1905، إلى أن طبق العُصبان من العادات والتقاليد الغذائية الجزائرية. وفي حين يعيد الإعلامي الجزائري بلقاضي، بالمقابل، جذور هذا الطبق إلى العهد العثماني، أي إلى أواسط القرن السابع عشر، وينسبه إلى أحد عناصر الجيش الإنكشاري قادم من بلاد الصرب؛ فإن الباحث المغربي محمد بن شقرون (1932 - 2022)، محقق كتاب (فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان) لابن رزين التُجيبي (ت692/1292)، دفين تونس؛ يدرج العُصبان في فهرس (بعض ما يحتاج إلى شرح لاختصاص الأندلسيين به)، مما يعني أن العُصبان من أطباق المطبخ الأندلسي، إلا أن في كل هذا نظراً.
فإذا كان صحيحاً أن ابن رزين قد أشار إلى العُصبان أو بالأحرى (العُصَب) في سياق ما اعتبره، وفي أكثر من مناسبة، الأطباق (المعلومة) أي المشهورة، وأشار إلى طريقة إعداده، ووصفته، وطريقة تقديمه على وجه المِثرد؛ فإن مصادر مائدة أفريقيا أو المطبخ التونسي والمغاربي عموماً أسبق في الإشارة إليه، ولكن في غير كتب الطبيخ:
- ذكره أبو العباس الوارجلاني (ت491/1078) في كتاب (السيرة وأخبار الأيمة)، في سياق خبر يعود إلى ما بين القرنين 3و4 للهجرة/ 9و10 للميلاد، يتعلق بمأدبة ملكية تم إعدادها على شرف أبي سليمان بن يعقوب، وهو أمير إباضي وعالم مجتهد من الأسرة الرستمية (ت310/922)، يقول:
«كان أهل وارجلان (وارجلان أو وركلة هي ورقلة حالياً) قد أجادوا الضيافة لأبي سليمان بن يعقوب (ابن أفلح بن عبدالوهاب بن عبدالرحمان بن رستم) وأصحابه، وصنعوا له طعاماً عليه العُصُبُ، فدعوه وأصحابه إلى الطعام، فلما حضر الطعام بين يدي أبي سليمان وأصحابه وعليه عُصُبٌ، أخذ أبو سليمان عُصْبةً واحدة (عُصبانة)، فشمها فأحس فيها الفرث».
- وذكره المؤرخ الإباضي أبو العباس الدرجيني (ت670/1271)، دفين نفطة، في (طبقات المشايخ بالمغرب)، ضمن ما سماه بالأطعمة الحفيلة، بمعنى الفاخرة أو الباذخة أو الأطعمة الملكية المتصلة بالمواسم والأعياد والمآدب وطقوس العبور، وبالتالي الأطعمة التي يكون عليها الإقبال كبيراً؛ وفصل القول في طريقه إعداده بقوله:
- استعملوا له أطعمةً حفيلةً، قد طبخوا فيها مُصران الغنم ومباعرها، وركبوها مع اللحم على الثريد.
- أما الشماخي (ت928/1522)، في (كتاب السي)، وتحديداً في الجزء الخاص بتراجم علماء المغرب إلى نهاية القرن الخامس الهجري، فيشير صراحة إلى ما يسميه حرفياً (طعام العُصبان)، لقوله:
«أجرى أهل وارجلان الضيافة لسليمان بن يعقوب وأصحابه، فدعوه يوماً على طعام عُصْبَان، عليها أثر فرث، فشق واحدة منها (عصبانة) فلما وجد الفرث رمى بها)، مع الإشارة إلى مصطلح (الطعام) من المحتمل جداً، مثلما هو الحال إلى يوم الناس هذا، من المحتمل جداً أن يكون مرادفاً لمصطلح الكسكسي بما يعني بالنتيجة إلى إشارة النص احتمالاً إلى طبق (الكسكسي بالعُصبان) أو كسكسي العُصبان، ذائع الصيت في المطبخ التونسي، علماً أن العُصبان يمكن أن يُطهى في الأرز، وفي الثريد، ومع النواصر، والجلبانة، واللوبيا البيضاء، والبطاطا والباذنجان، والمدفونة والمرقة البيضاء، ويمكن أن يكون (عُصبان مكفن مع الدويدة الجارية) أو (عُصبان مكفن في الكوشة) إلا أنه أوثق ارتباطاً بالكسكسي، بهذا جرت العادة قديماً وحديثاً، يقول ابن رزين التُجيبي:
«وقد يُطبخ الكسكسي بالبيصار صرفاً، أو به وبالعُصُبِ (أي بالعُصبان)».
مما يعني أن هذا اللونَ من الطعام، لارتباطه تاريخياً بالوسط الإباضي، ولاتصاله أساساً بطبق الكسكسي، وإن كان غير مقتصر عليه؛ لونٌ من ألوان الطعام المتجذرة في المطبخ الأمازيغي ومائدة طعام البربر: سكان شمال أفريقيا القدامى، وتواتر المصطلح يدل على أنه كان طعاماً مألوفاً وطبقاً مشهوراً، وعادة أكله واستضافة عِلية القوم عليه خصوصاً؛ سابقة بالأدنى عن القرنين الثالث والرابع الهجريين.
خاتمة
الأطباق التقليدية مثل طبق العُصبان عنصر أساسي من عناصر المحافظة على رهان الخصوصية في الهوية الثقافية والحضارية التونسية والمغاربية، وهو بما هو تراث غذائي أصيل، وبالتالي تراث لامادي، شكل من أشكال مجابهة كونية التماثل التي فرضتها العادات الغذائية الوافدة، بكونية موازية هي كونية التغاير، ويكشف التحليل الأنثروبولوجي لقيمة (العُصبان التونسي)، والعبارة للباحث د.نوفل حنفي، عن ثراء ثقافي وعمق رمزي كبير، يضفي بعداً فريداً على التجربة الطهوية (التونسية والمغاربية أساساً)، ويضفي عليها قيمة أنثروبولوجية، من حيث التنوع الثقافي، ومن حيث الأبعاد الاجتماعية على السواء، ويحمل التمسك بإعداده وتقديمه، وجلوس أفراد الأسرة الموسعة إلى سُفرته واجتماعهم عليها بنوع من (الطقوس) الاحتفالية والاحتفائية معا؛ رمزية اجتماعية وثقافية تعزز قيم الهوية.

ذو صلة