إن التراث الثقافي لا يمكن حصره في المتاحف، لأنه يتصل بحياة الناس والتعامل معهم، فلكل شعب من الشعوب أنماط حياة تختلف عن الشعوب الأخرى، وله سمات تميزه عن غيره.
لقد اهتم العرب في ثقافتهم الشعبية منذ القدم، فهناك الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والمستطرف في كل مستظرف للإخشيدي، كما ظهرت في عهد المماليك سيرة عنترة بن شداد وتغريبة بني هلال والزير سالم والأميرة ذات الهمة وغيرها.
وقامت منظمة اليونسكو التابعة لهيئة الأمم المتحدة بإبرام اتفاقية عام 2003م لصون التراث الثقافي العالمي، ودخلت حيز التنفيذ عام 2006م، وذلك من خلال تحديد عناصر التراث الثقافي وضمان صونه، وتحدد الاتفاقية أنواع المواقع الطبيعية أو الثقافية التي يمكن أن تندرج تحت قائمة التراث العالمي.
وعملت الدول المهتمة بالثقافة الشعبية على إستراتيجية وطنية لصون التراث الثقافي وتجميع الجهود وتنسيقها بالتعاون مع مؤسسات المجتمع الرسمية كالجامعات ومعاهد البحوث ومديريات الثقافة، والهيئات غير الرسمية كالجمعيات الثقافية والتراثية، وتشجيع البحث الذي يبحث في الثقافة الشعبية، وتعزيز الدوريات المتخصصة في مواضيع الثقافة من خلال:
- تفعيل التواصل البنّاء ما بين الشباب (والمقصود بالشباب الذكور والإناث) والكبار.
- عقد دورات متخصصة للباحثين الشباب في مجال الثقافة الشعبية.
يعيش العالم مع مطلع القرن الحادي والعشرين على وقع ثورة ثقافية ومعرفية هائلة، ترتبط بالوسائل التكنولوجية الحديثة (وسائل الاتصالات المختلفة)، والتي أطلعت الناس على حضارات الشعوب الأخرى، في ظل ثقافة العولمة، وما يترتب على ذلك من تغير كمي ونوعي في شبكة العلاقات الإنسانية، خصوصاً العادات التي يمارسها أفراد المجتمع في حياتهم اليومية.
وتعرّف العادة بأنها سلوك اجتماعي ملزم يدخل في تكوينه قيم دينية وعرفية تجعل الأفراد يسايرون المجتمع ويوافقونه في مختلف الأحداث والمواقف الاجتماعية المتكررة كعادة إكرام الضيف، والتي يؤدي خرقها إلى الصدام مع المجتمع. وتترسخ العادة من خلال مرورها عبر زمن طويل، ويتم اختيارها من خلال أدائها لوظائف اجتماعية اتفق عليها المجتمع.
أقبل الشباب على العادات المستحدثة لأنها تلبي بنظرهم احتياجاتهم ولأنها تساير روح العصر. وتبدأ العادة من خلال ممارسة أحد الأفراد أو مجموعةٍ صغيرةٍ من الأشخاص تعارض ما هو متبع في المجتمع، وهنا عندما يعارضها المجتمع فإنها تضمحل وتموت، أو تستجيب لرغباته فتنمو وتعيش، وما بين الرفض والتبني فإن الشباب يمارسون ما يلبي احتياجاتهم. وإن الذي يدفع الشباب لتبني هذه العادات الجديدة:
- تحقيق الأحلام وإشباع الحاجات المختلفة.
- ربطها بوسائل التكنولوجيا.
- فصل الدين عن الحياة.
وهذا يتطلب التضحية بكل ما هو تقليدي، والتضحية بالثقافة القديمة، واتباع منهج النظام الجديد عبر الشبكة العنكبوتية.
لقد انقسم الشباب إلى فئتين: فئة ترى أن قيم الماضي لا تتماشى مع قيم العولمة، والتي هي تتماشى مع التحضر والتقدم، وفئة ترى أن المحافظة على قيم المجتمع أولى من تتبع قيم الغرب، والتي يدعو بعضها إلى تفكك المجتمع وبالتالي تفكك الأسر. وعلى المخططين أن يقوموا بدعم هؤلاء الشباب وتوجيههم الوجهة الصحيحة، وجعل التراث أحد أهم مقومات النهوض بالمجتمعات، بعمل مشاريع إنتاجية تراثية تحافظ على الثقافة الشعبية وتثري القائمين عليها كمشروعٍ اقتصادي استثماري، ومثال ذلك المطاعم والصناعات الشعبية.
وتنتقل ثقافة العولمة إلى المجتمع من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الغربي مقابل الإعلام العربي المتواضع، ومن خلال البعثات الدراسية للدول الغربية، والانبهار بحضارة الغرب، بسبب إظهارها بالمظهر الإيجابي المخالف للواقع وكأنها منقذ للشباب وللمجتمع. وإننا نجد أن تعاملنا مع الحضارة الأخرى لا يقتصر على استيرادنا للتكنولوجيا فقط، وإنما أيضاً سلوك تلك المجتمعات وقيمها، والتي تتعارض مع سلوك مجتمعناوقيمه.
إن العولمة تهاجم الهويات الثقافية المحلية في عقر دارها، من خلال فقدان المناعة والإعجاب بها، فتتهاوى العادات والتقاليد أمامها بقوة اندفاعها، فالشعوب تتلقى ثقافة العولمة فتجعلها أسيرة لها، وهذا تقويض لشخصيتها الحضارية التي ورثتها عبر أجيالٍ عديدة، حتى ترسخت في المجتمع وأصبحت جزءاً من شخصيته.
ونستطيع أن نرسخ الثقافة الشعبية في نفوس الشباب ونحصنهم من خلال عدة طرق منها:
- توعيتهم بمخاطر حضارة العولمة.
- تعميق الانتماء الوطني عندهم.
- التركيز على الإيجابي من الثقافة الشعبية وإبرازها لتكون حافزاً لهم.
- تبيان سلبيات العولمة التي لا تتوافق مع عاداتنا وقيمنا التي ورثناها عبر الأجيال المتعاقبة.
- تبيان أن الحضارة المادية تشكل خطراً على الشعوب وثقافتها.
- كما يقع على عاتق وزارة التربية والتعليم والجامعات والمعاهد تدريس الثقافة الشعبية، وتكون جزءاً من مناهجها.
- وعلى مسؤولي الإعلام التمييز ما بين الغث والسمين عند طرح مواضيع الثقافة الشعبية.
- التركيز على الثقافة الشعبية التي تحافظ على هوية الأمة وقيمها العليا، لتكون مفخرةً للشباب ليحموها ويدافعوا عنها.
إن ما نشاهده يقوِّي عزيمتنا على الحفاظ على ثقافتنا والاهتمام بها وترسيخها من تأثير العولمة الدخيلة على مجتمعاتنا. ومن مهام الثقافة الشعبية تحصين الأمة والنهوض بها لمواجهة الأزمات والتحديات وإفرازات العولمة، كما تعمل على تجانس ذهني وروحي بين شباب الأمة مع تعزيز ضبط سلوكياتهم الإيجابية والاستخدام الأفضل للتكنولوجيا.
إن الثقافة الشعبية في المملكة العربية السعودية تعد مفخرة من مفاخر الثقافات العربية، لما تتميز به من أصالة وحداثة بحيث يمتزجان مع تغليب الأصالة على الحداثة، لما للأصالة من قيم راسخة في المجتمع الممتد عبر الأجيال، والتي تحافظ عليه وتضيف إليه كل ما هو إيجابي ويحافظ على المجتمع الأصيل وتماسكه. وتشتمل هذه الثقافة على العادات والتقاليد والمعارف الشعبية والآداب والثقافة المادية، كما تشتمل على القصص والأساطير والأغاني والألعاب والأمثال والرقص والحرف والملابس والأطعمة.
اهتمام السعودية بالثقافة الوطنية
لقد شجعت الحكومة السعودية، وبخاصة جلالة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، الباحثين في الحفاظ على تراث المملكة، ووفرت لهم الوقت الكافي وسهلت لهم الطرق ليبحثوا ويوثقوا هذا التراث الغني والواسع، وكان لهذا أثر واضح على دراسته والحفاظ عليه واستخلاص المعلومات والمعارف وتطويرها إلى كل ما هو إيجابي ومميز.
وتتميز الثقافة السعودية بتنوعها ما بين المدن والقرى والبادية والحضر، فلكل منطقة سماتها التي تختلف عن سمات المناطق الأخرى من لباس وأغانٍ وكل مناحي الثقافة، ونتعرف على ذلك من خلال المهرجانات التي تقام وتعرض بها هذه الثقافات، والتي تعمل على تعزيز الروابط الاجتماعية وتعزيز العلاقات الإنسانية.
لقد عملت وزارة الثقافة السعودية على إدراج مواقع طبيعية أو من صنع البشر أو عادات وتقاليد. أما المواقع السعودية المدرجة على قائمة التراث العالمي فمنها: مدائن صالح في شمال المملكة، وحي الطريف بالدرعية القديمة، ومنطقة جدة التاريخية، والفنون الصخرية بمنطقة حائل، ومنطقة حما الثقافية، ومحمية بني معارض، والمنظر الثقافي في منطقة الفاو.
وختاماً نقول: حيّا الله القائمين على حفظ الهوية الوطنية في مختلف مواقعهم، فهم الذين يحرسون قيم المجتمع العربي الأصيلة.
_____________________________________________
*دكتوراه دراسات اجتماعية - باحث بالتراث الشعبي الأردني.