يأخذني تعبير جديد ألمَّ بوجهها حديثاً، مزيج من ألم وخوف وأمل وضراعة، ونداء بطلب المشاركة الوجدانية ولو بكلمة، عيناها فيهما لهفة إلى رؤية كلمة حانية، نظرة تعاطف، إحساس يتعاطف مع ألمها، تأخذني اللوحة الإنسانية بعيداً عن مرضها الذي باحت بسره، الآن فقط يمر بخاطري سؤال لا أعرف من أين أتاني:
- لماذا يختار المرض ضحاياه بعضاً دون الآخر؟
يحضرني البيت الشهير للمتنبي جواباً لهذا.. على قدر أهل العزم تأتي العزائم.
- محمد.. أنا خائفة.
أعود إلى عينيها، ما بين لحظة وأخرى تتبدل حالة الوجوه، تتغير الملامح في ثانية أو أقل، تذبل السمات ذبول الوردة اليانعة، ويتحول التألق إلى انكسار، يلبس المريض بمجرد علمه بمرضه ثوب المرض فوراً، تكتسي ملامحه وروحه بكساء المرض، تتغير نظرته إلى الوجود من حوله، يرى بياض النهار سريراً يحتوي مرضه، وسواد الليل سميراً لروحه وعذاباتها.
- مم تخافين؟
أبذر حولها كلمات أعرف جيداً أنها تحفظها، أنسج بردة من تعاطف وتراحم حولها، مهوِّناً من أثر الصدمة التي خلَّفها عِلمها بخطورة مرضها.. وجهها المغضن بالألم والخوف يبتسم، يرتسم في ثنايا تغضناته فرح مغلف بمشاعر حياء طارئة كأنما المرض شيء تخجل منه.
- أماه..
تحدق عيناها شاردتين في وجهي، أعرف أن اللحظة غير مواتية إلا لمزيد من كلمات المشاركة، أبتسم لها، تسدل جفنيها حائلاً بيني وبين أغوار عينيها وما خلف نظراتهما من قلق وحيرة.. المرض معناه مستشفى وتحاليل وأشعّات وانتظار النتيجة، وياله من انتظار، وفوق هذا تكلف الهدوء في وقت تعتصر رياح القلق فيه القلب.. أعرفها جيداً، كم رأيت القلق في طيات نظراتها ولمسات يديها وأحدنا مريض، أنا أو أحد إخوتى، وكم قالت ما قلته لها الآن مراراً وتكراراً، الجديد أنها الآن هي التي تحتاج لهذا، خصوصاً في تلك السن ومع هذا المرض.. مؤكد لن تستطيع القيام، قيود المرض ستعوق حركتها، وعليّ من الآن أن أقوم عنها بقدر ما أستطيع.
بدت الشمس من خلف زجاج النافذة المغلق حاملة رداءها الأرجواني مغادرة في رفق ودون كلمة وداع.. تفجرت المشاعر في صدري.. أمي سيأخذها المرض بعيداً، سيسرق روحها منا، أمسكت بيديها بللتهما بدموعي، تبسم الألم على محياها، مسحت خدي برفق وهي تهمس في وهن الضعف: لا تقلق..
ارتميت على صدرها بقوة، احتضنت روحي كعادتها، ربتت على ظهري بيد حنانها.. فجأة دفعتني عنها برفق هامسة:
- عليّ أن أجهز الطعام الآن، إخوتك قادمون.