تمسك أحمد بكرسيه في الطائرة بينما كانت عجلاتها تلامس أرض المدرج، وتجري مسرعة، ونظر إلى الخارج من خلال النافذة المجاورة لمقعده فرأى الجزء العلوي من جناح الطائرة يرتفع، وهنا أعلن كابتن الطائرة عن وصول الرحلة رقم (2022) إلى مطار دبي الدولي بسلامة الله وحفظه، وأخبرهم عن درجة الحرارة في الخارج، ورجا المسافرين البقاء في مقاعدهم لحين وقوف الطائرة وقوفاً تاماً وإطفاء إشارة ربط الأحزمة، وأخبرهم أن بإمكانهم الآن فتح جوالاتهم واستخدامها بعد أن طُلب منهم إغلاقها عند هبوط الطائرة حتى لا تؤثر على أجهزة الاستقبال.
فتح أحمد جواله، وأخذ ينظر في شاشته، بحثاً عن رسائل نصية تفيد بوجود مكالمات فائتة أثناء إغلاق هاتفه، فلم يجد شيئاً. فوضع الجوال في جيبه، وأسند ظهره إلى الكرسي وأغمض عينيه، وسرح بخياله بعيداً، وأخذ يستعيد سفراته المتكررة أثناء دراسته في أستراليا، وتذكر كيف كان يجد عشر مكالمات فائتة على الأقل حين يفتح جواله إذا وصل إلى مطار دبي، وكان يبتسم وهو يتذكر أنه كان يخبر والده بموعد وصول الطائرة، وكان يتعمد أن يضيف ساعة إلى موعد وصولها المجدول، تحسباً لتأخرها ولعلمه أن والده سيظل قلقاً، وسيحاول الاتصال به ليطمئن على وصوله، فكان يود أن يفاجئه هو بالاتصال قبل أن يتصل به فيجد هاتفه ما يزال مغلقاً. ورغم ذلك فما أن يفتح جواله حتى يجد عشر رسائل على الأقل تفيد بمحاولات والده الاتصال به من هاتف منزله حيث لم يكن والده يحسن استخدام الهاتف المتحرك. وكان أحمد يشعر بالسرور والغبطة وهو يرى رقم هاتف منزل والده يزين شاشة جواله، ويستعجل الخروج من الطائرة حتى يأخذ أمتعته ويمضي مسرعاً إلى منزل والده ليعانقه ويقبل رأسه ويده، ويرى السعادة والسرور ترتسمان على وجهه فرحاً بعودته سالماً.
فتح أحمد عينيه فوجد أن جميع الركاب قد غادروا الطائرة، ولولا أن مقعده كان إلى جوار النافذة لنبهه الراكب الذي يجلس إلى جواره ليفسح له المجال للخروج إن كان هو يرغب في المكوث. قام أحمد من كرسيه وأخذ حقيبته من المكان المخصص للحقائب وغادر الطائرة وهو يتحاشى النظر إلى المضيفين والمضيفات الذين وقفوا أمام باب الطائرة يودعون المسافرين.
لم يكن لديه أمتعة في الشحن فقد أصبحت سفراته قصيرة، يكتفي فيها بشنطة يد صغيره يحملها داخل مقصورة الطائرة، مر ببوابة الجوازات الإلكترونية سريعاً، وما هي إلا دقائق حتى وجد نفسه يقف في طابور المسافرين الذين ينتظرون سيارة الأجرة. وبعد دقائق جاء دوره فركب في المقعد الخلفي من التاكسي، وما أن ركب السائق الهندي في مقعده وربط حزام الأمان حتى سأله: وين يريد يروح أرباب؟ (أين تريد الذهاب يا سيدي؟) فرد عليه أحمد وهو يمسح دمعة طفرت من عينيه ووقعت على خده: مقبرة القصيص لو سمحت.