لعل من حسن حظ الموروث الشعبي العربي في الآونة الأخيرة، تزايد تلك الحالة العربية العامة من الاحتفاء بهذا الموروث والاحتماء به، والرغبة الصادقة في تأكيد المشتركات الثقافية والثوابت العربية وترسيخها، من خلال العودة إلى الجذور والنهل من المنابع الثقافية العربية المشتركة، بهدف مواجهة الهجمات التكنولوجية الشرسة.
إن الهروب من هذه المواجهة المفروضة علينا يعد أمراً شديد الخطورة على مستقبل هذه الأمة، مما يجعل قرار المواجهة قراراً مصيرياً لا بد منه، وذلك باستنهاض الهمم العربية للاهتمام بجذورنا الثقافية المشتركة.
فالتكنولوجيا الراهنة تلتهم الثقافات والحضارات ذات التاريخ والتراث العريق، لأنها -أي التكنولوجيا- ضد التاريخ والعراقة، اللذين هما من أهم خصائص الموروث الشعبي. ومن أبرز خصائص الثقافة العربية أنها ثقافة أمةٍ لها تاريخ طويل، تاريخ تفتقده كثير من الأمم التي أصبحت لها الغلبة والسيطرة اليوم. غير أن هذا التاريخ وهذه العراقة -بقدر ما يمثلان من قيمةٍ وأهمية- قد يصبحان عبئاً ثقيلاً على أكتاف الأجيال الراهنة؛ إذا لم نُحسن توظيفهما لخدمة واقعنا المعيش، بدلاً من الاكتفاء بالتغني بأمجاد التراث وعظمته.
فمن يراجع تراثنا العربي سيجده زاخراً بالعديد من الأشكال الفلكلورية التي يمكن إعادة استلهامها وتوظيفها في مواجهة بعض مخاطر التكنولوجيا الحديثة. ففي تراثنا العربي تدهشك حكايات الجاحظ في البخلاء أو الحيوان، على نحو ما تشدك حكايات الدميري في حياة الحيوان الكبرى، وطرافة كتاب المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي، وأحاديث أبي حيان التوحيدي.. وغيرها من روائع التراث العربي.
وهي نصوص شعبية كان لهؤلاء فضل جمعها وتدوينها وتوثيقها، وحفظها من الضياع. وعلى نحو ما تشدك تلك النصوص، تجذبك إبداعات الأداء في الليالي العربية التي غزت العالم -ولا تزال- بتأثيرها وجاذبيتها، والتي كانت سبباً في شغف الغرب بمخيال الشرق.
كما تبهرك إبداعات الأداء في السير الشعبية، التي لا تزال السيرة الهلالية إحدى آثارها الأدبية الباقية، قبل أن تنقرض شفاهياً سيرٌ عربية أخرى ذات قيمة كبيرة، ما زالت المدونات العربية تحفظها، مثل: الأميرة ذات الهمة، سيف بن ذي يزن، علي الزيبق، الزير سالم، عنترة بن شداد، الظاهر بيبرس.. وغيرها.
وكذلك الظواهر المسرحية الشعبية، كما تتجلى في خيال الظل والأراجوز، أو في الأشكال الشعرية الشعبية التي تطوف عالمنا العربي، مثل الشعر النبطي والبدوي والحساني.. إلى غير ذلك.
كل ذلك وغيره مما يمثل بعضاً من معالم الثقافة العربية التي تختزنها الذاكرة العربية عبر تاريخها الطويل، وهي الذاكرة التي تحاول التكنولوجيا الحديثة أن تثقبها، فيتسرب هذا التاريخ ويتلاشى مع الزمن، فتتوارى معه ثقافة أمةٍ عريقة متجذرة.
في ظني أن من أشد مخاطر التكنولوجيا الحديثة على ثقافتنا العربية ما تتركه من تداعيات سلبية تمس أهم مقومين من مقومات الثقافة العربية: الذاكرة والخط العربي. فالذاكرة هي التاريخ والماضي اللذان يسهمان في بناء الحاضر والمستقبل معاً، والخط العربي ملمحٌ فنيٌ تنفرد به الثقافة العربية.
ويمكن إدراك هذا الأثر السلبي بوضوح حين نختبر ذاكرة الأجيال الجديدة التي أصبحت أشبه بذاكرة السمك، كما يقول الوصف الشعبي: «أنا مش فاكر فطرت بإيه علشان أفتكر كذا»! فبعد أن كنا نحفظ دواوين الشعر العربي وتفاصيل حياتنا وأرقام هواتفنا، أصبحت ذاكرتنا مثقوبة، فلم نعد نذكر حتى رقم الهاتف الشخصي.
أما الخط العربي، فبعد أن كان فناً حياتياً نستعرض من خلاله مواهبنا الفطرية وجمالياتنا، أصبحنا -مع استخدام الحاسوب- فاقدين هذا الجمال الفطري في الكتابة والقراءة.
ولعل في تسجيل الخط العربي عنصراً ثقافياً عربياً مشتركاً ضمن القائمة التمثيلية في اليونسكو ما يستحث الهمم نحو مشروع ثقافي عربي للمحافظة على الهوية البصرية العربية المتمثلة في الخط العربي.
وإلى جانب ذلك، لا بد من مشروعٍ ثقافي عربي مشترك يعمل على تفعيل دور الذاكرة العربية بوصفها مستودعاً رقمياً للمخزون الثقافي العربي. إن هذين المشروعين -بقدر ما يحافظان على ملمحين ثقافيين عربيين من أهم ملامح الهوية الثقافية- بقدر ما يمكن أن يكونا نقطة انطلاق لربط الماضي بالحاضر وبمستقبل ثقافتنا العربية المشتركة.
ففي الاتحاد الثقافي العربي قوة قادرة على مواجهة أي مخاطر ثقافية مستقبلية محتملة، إذ لدينا من المرتكزات والجذور والثوابت المشتركة ما يمكّننا من الانطلاق نحو مستقبلٍ ثقافيٍ أكثر حضوراً في العالم الرقمي الراهن.
غير أن ما ينبغي التأكيد عليه في ختام هذا المقال، أن الموروث الثقافي الشعبي العربي عصي على الضياع أو الفقدان أو النسيان، مهما واجه من مخاطر وتحديات، ويعود ذلك إلى سببين رئيسن:
الأول: متانة هذا الموروث وصلابته في مواجهة التحديات.
والثاني: تمسك الشعوب العربية بموروثها الشعبي الذي تعبر به عن هويتها الثقافية.
والملفت للنظر أن أكثر اللحظات التي تمر بها الأمة العربية صعوبة وأزمة، هي نفسها اللحظات التي تتولد فيها لدى الشعوب دافعيةٌ أكبر للتمسك بالموروث الشعبي، خصوصاً الموروث الذي يوحد ولا يفرق، يؤلف ولا يشتت، يجمع الشعوب ولا يباعد بينها.
وكأن هذا التمسك الشعبي بميراث الأمة العربية -الذي يتجاوز حدود كل شعبٍ من شعوبها- هو شكلٌ من أشكال الاحتماء الثقافي والوجودي في مواجهة التحديات، تكنولوجية كانت أو سياسية.
ولعل ذلك أحد أسباب تزايد الاهتمام مؤخراً من قِبل الدول العربية بالموروث الشعبي، سواء بجمعه أو تدوينه أو دراسته. ومن أبرز ما يميز هذا الاهتمام أنه لم يعد مقتصراً على الشعوب وحدها، بل تجاوزها إلى الحكومات العربية التي أدركت أهمية الموروث بوصفه ضمان بقاء العرب ووجودهم واستمرارهم.
نعم، إن الاحتماء داخل مشيمة الموروث الشعبي العربي هو الدرع الواقي الأخير من أي غزو ثقافي يهدد وحدة الأمة العربية وكينونتها وهويتها.
______________________________________
* أستاذ الأدب الشعبي، كلية الآداب، جامعة القاهرة