مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

حول الخط العربي وحفظ التراث الثقافي المادي

تاريخياً، يرجع الاهتمام بالموروث الشعبي أو (الفولكلور) إلى عام 1846م، وإلى البريطاني وليام جون توماس الذي وضع مصطلحه. وهو علم يُعنى بمعتقدات وتقاليد وعادات الشعوب أو المجتمعات المتناقلة عبر الأجيال. وفي عام 1878م قامت أول جمعية تحمل اسمه، وشهدت خمسينات القرن الماضي اهتماماً كبيراً به في بريطانيا، وألمانيا، وأمريكا الشمالية، ودول أوروبية أخرى، ثم عالمياً لاحقاً. وبقيام المنظمة الأممية للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في عام 1945، وُضعت المعايير والتصنيفات الخاصة به، وكيفية إدراجها في قائمتها لحماية التراث العالمي، وعليها بدأت الدول في إدراج تراثها. وفيما يتعلق بالدول العربية، توضّح البيانات إدراج 98 من المواقع في قائمة التراث الإنساني العالمي، مقابل 130 من العناصر المدرجة في قائمة التراث الثقافي غير المادي (بينها عناصر مدرجة من قبل دول بشكل منفرد وأخرى مشتركة).
ومن أبرز العناصر المدرجة في قائمة التراث الثقافي غير المادي نجد أن (النخلة) قد أُدرجت باسم 14 دولة في عام 2019 (السعودية، والإمارات، وعُمان، والبحرين، وتونس، ومصر، والسودان، واليمن، والمغرب). وأن (الخط العربي) أدرجته 16 دولة في عام 2021 بتنسيق من السعودية عبر المنظمة العربية للثقافة والعلوم (الأليسكو): (السعودية، والبحرين، والمغرب، ومصر، والكويت، والجزائر، ولبنان، وعُمان، وموريتانيا، والأردن، وفلسطين، والسودان، وتونس، والإمارات العربية المتحدة، واليمن، والعراق). وكذلك أدرجت 11 دولة (النقش على المعادن) في عام 2023 (المغرب، والجزائر، والسعودية، واليمن، والعراق، والسودان، وفلسطين، ومصر، وتونس، واليمن، وموريتانيا) مع احتفاظ كل دولة بخصوصيتها. وفي العام الماضي أُدرجت (الحناء) باسم الدول التي شاركت في إدراج (الخط العربي) بإضافة قطر واستثناء لبنان. وفي الوقت الذي تشير فيه البيانات إلى إدراج فردي من بعض الدول في بعض العناصر واشتراك بعضها في عنصرين (السعودية والكويت في نسيج السدو في 2022) أو أكثر، يتبيّن عدم وجود أي عنصر باسم الصومال التي صادقت على اتفاقية اليونسكو للتراث العالمي في عام 2020.
الخط العربي ماهيته ورمزيته وأنواعه
بالرغم من أن (القرآن الكريم) يمثّل الكتاب المقدس للمسلمين والعرب ومعجزة لغوية، وأن الشعر العربي هو (ديوان العرب) وفخرهم، تبوأ الخط العربي مكانة رفيعة، وازدهر مع ازدهار العمارة الإسلامية لتتنوع وتتعدد أساليبه (أبرزها: الكوفي، النسخ، الثلث، الديواني، الرقعة، والتعليق). يقول قاى إيتون: «إن أسمى فنَّين في الإسلام هما الخط (المزيَّن بالزخرفة) وفن العمارة، أحدهما متعلق بالكتاب المنزل، والآخر ببيئة البشر. ربما يمكن القول إن الخط العربي يرتبط بالجزء الأول من الشهادة، وهو الإقرار بوحدة الإله».
هنا كاد أن يقول إيتون إن الخط العربي خُلِق من أجل القرآن الكريم وخدمته. وهذا القول يعضده عثمان وقيع الله فيما أسماه (مدرسة البعد الرابع): «أبسط تحديد للبعد الرابع الخطوطي أنه منبثق من التكوين الحروفي للنصوص القرآنية. فلغة القرآن الكريم نسيجها الحرف والكلمة والجملة، وهذا هو قوام اللوحة العربية الإسلامية». وبهذا يقرب وقيع الله للأذهان دور حروفيين كأحمد شبرين وشاكر حسن آل سعيد، مؤكداً أن الحرف العربي هو المعادل البصري الموضوعي المقدس للعربي والمسلم، وأنه أيقونة باذخة الجمال عالمياً. «الفن هو نظام رمزي مثل اللغة بشكل عام، من خلاله يتكيف الإنسان مع العالم المحيط به»، كما تقول كاتي رانتالا من جامعة هلسنكي. ويكفي قول بيكاسو: «لو علمت أن هناك فناً يُدعى الخط العربي لما بدأت الرسم قط. كنت أريد أن أبلغ أسمى درجات الفن، لكنني وجدت أن الخط الإسلامي سبقني بعصور».
تطويره وتوثيقه
ولتوثيق الخط العربي كتراث ثقافي غير مادي، هناك من يقول بضرورة توثيق الخطاط والمبدع عامة لعمله وسيرته، وهناك من يُلقي المسؤولية على عاتق الدول، وينادي بضرورة تسخير شتى الطرق وتوظيف أفضل لما توفره الوسائط المتعددة عبر الصوت والصورة، الثابت منها والمتحرك، ومواكبة تطورها المضطرد. وتؤكد الدراسات والاستطلاعات ضرورة الاهتمام بتدريسه في المدارس والمؤسسات الثقافية، بجانب تدريب المعلمين، وإقامة المعارض، وورش العمل، والمسابقات المحفزة، واقتناء الأعمال، إضافة إلى طباعة ونشر الكتب والدوريات المختصة ورقياً ورقمياً، وغير ذلك من مقترحات.
وبالرغم من التحديات التي تجابه الدول والحكومات، يظل السؤال عن دورها ودور الخطاطين والمبدعين عامة في توثيق إنتاجهم والتعريف به محلياً وعالمياً ملحاً. ولا شك أن عالم اليوم المتطور قد هيأ الوسائط المتعددة الزاخرة بالمسموع والمرئي مثل المكتبات الرقمية والمواقع المختلفة كاليوتيوب، والتطبيقات، والبرامج كالتيك توك والبودكاست.
إن الدور الذي قامت به السعودية كدولة ذات تاريخ رسالي في التنسيق مع المنظمة العربية للثقافة والعلوم (الأليسكو) لإدراج الخط العربي في قائمة اليونسكو مع الدول المشار إليها آنفاً، يجعل الأنظار تتطلع إلى المزيد لحفظ وتطوير تراث الأمة وتوثيقه. أما بخصوص دور الدول ككيانات مفردة والمدرج في قائمة التراث الثقافي غير المادي، فتحتل الإمارات العربية المتحدة المركز الأول عربياً والسابع عالمياً. بالإضافة إلى مركزها المتقدم عربياً وعالمياً، تقوم الإمارات عبر إمارة الشارقة بدور بارز في الاهتمام بالخط العربي تعليماً وتطويراً وتوثيقاً من أجل الحفاظ عليه كهوية ثقافية. يضيف فيصل بن سعيد العلوي في استطلاع: «يوضح الخطاط السوداني تاج السر حسن كيف أصبحت الشارقة نموذجاً رائداً في تعزيز تعليم الخط العربي والزخرفة، مما يضعها في مصاف أهم الحواضر العربية التي تولي عناية خاصة بهذا الفن. وقد اعتمدت الشارقة نهجاً متكاملاً شمل تأسيس المؤسسات وإعداد البرامج».
خاتمة
إن الخط العربي الذي بدأ قبل الإسلام وازدهر بعده، وساهم في تطوره خطاطون وفنانون من العامة والأعلام (كالوزير ابن مقلة، وابن البواب، وياقوت المستعصمي، وعبدالعزيز الرفاعي، وهاشم البغدادي)، ووصل إلى ما هو عليه اليوم، وقيل عنه نادر مأثور القول كقول الإمام علي: «الخط الجميل يزيد الحق وضوحاً»، جدير بكل رعاية واهتمام في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي.

ذو صلة