التراث الشعبي أو الفلكلور هو العلم الذي يتناول بالتسجيل والتحليل والدراسة ما توارثته الشعوب منذ عهودٍ عتيقة، وبقي حياً في استعمالها من فنونٍ قوليةٍ وممارساتٍ ومعتقداتٍ في لغة ذات صلة وثيقة بالحياة الجارية.
مرّ تدوين التراث الشعبي السوداني بأدوارٍ نذكر منها ما قام به المؤرخون في مدوناتهم التي يغلب عليها الرواية التي ترد في أثنائها لمحاتٌ عارضة عن الجوانب الشعبية كالممارسات والمعتقدات، مثل ما كتبه الرحالة المسعودي والمقريزي والقلقشندي وغيرهم. ومن الرواة السودانيين الشيخ محمد ضيف الله الجعلي الذي ألّف كتاباً أسماه (كتاب الطبقات) روى فيه سير العلماء والأولياء الذين عاشوا في عصر ملوك سنار، ويُعد هذا الكتاب مصدراً مهماً للموروث الشعبي في السودان.
والشيخ محمد عمر التونسي الذي قام برحلة إلى دارفور دوّنها في كتابه (تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان) وعني فيه بالجانب الشعبي عنايةً ظاهرة.
وقام الشيخ عبدالله عبدالرحمن بتأليف كتاب (العربية في السودان) تناول فيه اللهجات والأمثال والأشعار والأحاجي والعادات السودانية، وذكر ما يقابلها في آداب العربية الفصحى، وكان هدفه هو رد التراث الشعبي إلى أصولٍ عربيةٍ قديمة.
ولعبت وسائل الإعلام الحديثة دوراً ملحوظاً في تناول التراث الشعبي بشتى أنواعه لنفض الغبار عن جواهره والإرشاد إلى مواطن إحسانه.
وحريّ بنا أن نذكر بعض الباحثين الذين خاضوا مضمار البحث وحفروا عميقاً للبحث عن كوامن التراث، ومنهم الأساتذة المصريون المبعوثون إلى السودان الذين غامروا رغم صعوبة فهمهم للغة المحلية التي يُقال بها التراث الشعبي من شعرٍ ونثر، فبذلوا قصارى جهدهم بمعاونة المفسرين من الطلبة والمعلمين لتفكيك طلاسم اللغة، وأتوا بما لم تستطعه الأوائل.
منهم د.عبدالمجيد عابدين الذي قام بتأليف (تاريخ الثقافة العربية في السودان) منذ نشأتها إلى العصر الحديث متناولاً فيه الدين والاجتماع والأدب، حيث تم التأليف عام 1953م وتمت الطباعة عام 1967م.
ثم د.عز الدين إسماعيل، والذي كان أستاذاً بجامعة أم درمان الإسلامية، ومدققاً لغوياً بإذاعة أم درمان، ومن الطرائف أن كتابه (الشعر القومي في السودان) أتى عن طريق الصدفة كما ذكر في مقدمته، حيث إنه كان يسمع كثيراً أحد العاملين بمقهى الإذاعة يترنم بكلام غير مفهوم، فناداه وطلب منه أن يقول له على مهلٍ ما يُغنّيه. وعندما فرغ من الاستماع فكّر في أن هذا الكلام أدب لا يُستهان به وجدير بالدراسة، ومن هنا بدأ تأليف الكتاب.
كذلك من العلماء المصريين نذكر د.عبده بدوي، ود.عز الدين الأمين، ود.إحسان عباس، وأ.د.محمد رشدي حسن، كلٌّ منهم وضع بصمته في الموروث الشعبي السوداني.
وبعد ذلك انداحت الفكرة للأقلام السودانية، والذين كانوا ينظرون إلى هذا الأدب نظرة استهجان وكأنما العامة ليس لديهم أحاسيس ومشاعر، وليس لهم القدرة على التعبير عنها، حيث كانت الفصحى هي مقياس الثقافة. نذكر منهم الشيخ بابكر بدري (الأمثال السودانية)، وأ.د.عبدالله الطيب (الأحاجي السودانية)، ود.الطيب محمد الطيب وكتابه (الأنداية) والذي وثّق فيه خمريات مجالس الشراب زمانئذٍ والتي هي موروث من العصر الجاهلي، وأ.د.الطاهر محمد علي البشير (الأدب الشعبي السوداني)، وأ.د.سيد حامد حريز (فن المسدار)، والمسدار هو نوع من القصائد الشعبية التي تسير على نمط الرجز الرباعي، وتعنى بسرد ومتابعة رحلة الشاعر إلى ديار محبوبته. وأ.د.عبدالله علي إبراهيم (فرسان كنجرت) دراسة لديوان نوراب الكبابيش وعقالاتهم، وأ.د.عون الشريف قاسم (قاموس اللهجة العامية في السودان)، ود.نور الدائم علي رحمة (ملامح من الشعر الجاهلي في الشعر الشعبي في بادية الكبابيش)، ود.فتحي بشير زكريا (صدى الأمثال العربية في الأمثال الشعبية السودانية).
الموروث الشعبي يُعد ركيزة للهوية العربية والإنسانية عامة، فهو الذي يقوم بتشكيل الهوية والذاكرة الجمعية، ويتجلى ذلك في محاور كثيرة نكتفي منها بالجانب القولي نثراً وشعراً، ففي النثر الأحاجي والأمثال والحِكم، وفي الشعر الدوبيت.
النثر الشعبي من الناحية الموضوعية ربما كان أوسع ميداناً وأكثر تنوعاً من الشعر، ففيه تكثر قصص البطولات والأمثال والأحاجي. فمن قصص البطولات قصة أبي زيد الهلالي، وسيرة سيدنا علي الكرار. والقصص الخرافية والخيالية والتي تُعرف بالأحاجي الطوال التي تؤثر في نفوس الصبيان فيضحكون ويبكون وتكلح وجوههم وتنطلق أسرهم، منها قصة (الغول وفاطمة السمحة). ففي هذه القصص غذاء لخيال الطفل بما تحتويه من غرائب وتهويلات تروي عطشه إلى معرفة عالم الغيب والمجهول، وتدريب ذهنه على حل العقد ومتابعة العلاقات الذهنية بين الأشخاص، وتحذيره من العزلة والمروق عن الجماعة، والتمسك بأواصر القربى وتقديس الروابط العاطفية.
النوع الثاني من الموضوعات النثرية هو المثل، وهو عبارة يتلقاها الخلف عن السلف ليحافظ على ألفاظها ما استطاع، والتمثل بها في المناسبات، لا يُعرضها في العادة للتغيير اللفظي. ومن الأمثال التي تُعبر عن الحكمة نذكر:
(زاد الحبان له بكان) أي زاد الأحبة له مكان. والميم والباء يتبادلان في لهجة السودانيين.
(غبينة العربية بفشّوها في السريّة) ومعناه أن ثورة الغضب التي يكنها الرجل من امرأته الحرة إنما تظهر في الجارية.
ومن النثر أيضاً الأحاجي والألغاز، ومنها:
(دخل القش ما قال كش) الظل.
(هو في البيت وريحته ما بتنشم) الملح.
ونختم بقول الحكماء في بعض المسائل ودائماً يأتي القول مسجوعاً، كقول الشيخ فرح ود تكتوك في الحريم: (النساء فيهن حريم، فيهن رميم، فيهن ذهب محزون قديم، فيهن عقارب ساكنات الهشيم).
أما الشعر الشعبي فهو قديم، ومنه الأزجال والموشحات والقوما والدوبيت والكان كان والمواليا وغيرها. يقول صفي الدين الحلي عن فنون الشعر الشعبي: (هي الفنون التي إعرابها لحن، وفصاحتها لكن، وقوة لفظها وهن، حلال الإعراب بها حرام، وصحة اللفظ بها سقام، يتجدد حسنها إذا ازدادت خلاعة، وتضعف صنعتها إذا أودعت من النحو صناعة).
والدوبيت كلمة فارسية معناها البيتان من الشعر، ويتكونان من أربعة أشطر، والدوبيت السوداني من حيث الوزن ما هو إلا رجز عربي قديم. وثمّة تشابه كبير بين الدوبيت الذي يغنيه الهمباتة –وهم أشبه بالشعراء الصعاليك– والشعر الجاهلي، وذلك لتشابه البيئة والواقع الاجتماعي، وأن كلّاً منهما قد اعتمد في طريقة تأليفه وانتشاره على الرواية والإنشاد. والمعاني تكاد تكون واحدة. وكذلك من عناصر التشابه وظيفة الشاعر ووضعه بالنسبة للمجموعة التي ينتمي إليها. وهذا ما جعل الناقد محمد النويهي يقول إنه لم يفهم الشعر العربي القديم فهماً تاماً إلا بعد أن زار السودان ومكث في ربوعه بعض الزمن.
يقول أحدهم:
نحن الهمباتة أصلنا معروفين
غير حق الرجال ما عندنا تموين
ما بندّبالو بنسوقو حمرة عين
بي موت بي حيا لازم نرضي أم زين
والمعنى: نحن الهمباتة معروفون بالأصل، ليس لدينا مؤونة غير مال الرجال الذي لا نسرقه خفية بل جهاراً بأعينٍ محمرة، وذلك لإرضاء المحبوبة سواء كان الثمن موتاً أو حياة.
ونلاحظ في تدوين التراث القولي صعوبة الكتابة الصوتية لبعض الألفاظ، ولكن الموضوع يُترك لفطنة القارئ. وكذلك إبدال كثير من الحروف مثل: ظل-ضل، قتل-كتل، كذاب-كضاب، مضغ-مدغ، مكان-بكان، ثور-تور، صدر-سدر... إلخ.
_________________________
* أستاذ مساعد في الأدب العربي