مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

موروث الآباء.. ما تبقى من عطر

الإنسان ابن بيئته، مقولة نرددها كثيراً، ولا نقف طويلاً أمامها، إلا أنها تختصر كتاب الحياة المليء بالتنوع في الطبيعة والبشر.. ولكل مكان طابعه الخاص المادي والجمالي.
السودان بلد التنوع الثقافي والاجتماعي والمناخي، ففي رحلة واحدة من منطقة إلى أخرى قد تمر بك كل فصول السنة من مناخ السافنا إلى مناخ البحر وتقلباته، تتنوع أشكال البشر والمزروعات والأكلات واللهجات في الولاية الواحدة وما بال الولايات الأخرى وجوار الدول وتداخل أقاويم جمعتهم مدينة والنشأة المختلفة والعادات والتقاليد والألعاب الشعبية المتنوعة حتى على مستوى المسميات إذا اتفق على الحركات ومكونات كل لعبة.
نشأت في مدينة أم درمان العاصمة الوطنية وأرقو في شمال السودان، ومع اختلاف الجغرافيا فإن كل منطقة لديها موروث شعبي تتناقله الأجيال من الآباء إلى الأبناء، ومع مرحلة الأحفاد فإن سؤال تأثير التكنولوجيا الكبير على المدينة والقرية يمثل تحولاً عظيماً في جغرافية العقل وتغير الاهتمامات ما بين جيل وجيل، وكل جيل يدخل في امتحان جديد مرتبط بالعولمة وتأثيراتها.
كل قياس عن الموروث الشعبي يحتاج إلى بحث ميداني يرتكز على البيئة ومدى حفاظها على المتوارث من تراث شفوي/ شفاهي، من شعر وحكايات وأغنيات تراثية، وتتقلص هذه المساحة في حياة الكبير والصغير كل يوم. ومع وجود تدوين على مستوى التواصل الاجتماعي والفضاءات المفتوحة فإن القراءة الصحيحة للواقع في السودان كمثال وبقية الوطن العربي تقول: الأجيال الناشئة لم تأخذ من الآباء الألعاب الشعبية (الحِجلة: لعبة تمارسها البنات تعتمد على الرشاقة والخفة في التعامل مع الحبل (نط الحبل). الكمبلا: لعبة شعبية تعتمد على علب صغيرة فارغة وكان الأصغر هي علب الصلصة، يتم رصها بمهارة ويتم التنشين عليها بواسطة كرة مصنوعة من قماش). هذه الألعاب الصغيرة لمن هم دون العاشرة اختفت إلا من لمحات هنا وهناك.
ألعاب القمر، وهي ألعاب تُلعب عند اكتمال القمر، وتعتمد التخفي والمهارة والسرعة ويمارسها الأولاد والبنات كل في مداره الخاص. قد يقول قائل بأن هناك موروثاً شعبياً لا زال في حياتنا له وجود وجزء من العادات والتقاليد، إلا أن زحف التكنولوجيا ليس المهدد الوحيد، بل عدم الاهتمام الرسمي والشعبي وعدم تطوير الألعاب بجعلها جزءاً من التربية المدرسية وكذلك إنشاء مدارس متخصصة في صناعة الحرف اليدوية.
والسودان رائد في تدريس الفنون ومن جعلها مادة ضمن المواد التي تُدرس في الفنون، فإن إقامة معاهد متخصصة هو الحل الجيد للحفاظ على منحوتات الخشب والحديد وعدم تركها للهواة. اختفت صناعة كراسي (الخيزران) وكانت تُصنع يدوياً، وأشهر روادها في منطقة الخرطوم (2)، وبوفاة هؤلاء الرواد اختفت صناعة يدوية جمالية تعتمد على كراسي خشب وتجليدها بصورة جمالية رائعة، وكانت عنواناً لمائدة تجمع الأسرة والضيوف.
كم حزنت على ضياع أخي وصديقي الراحل الفنان المسرحي الكبير إبراهيم حجازي، وهو ينفق العمر في جمع كل الموروث المادي للشعب السوداني ويسافر بين الأقاليم لشراء أوانٍ قديمة ومشغولات يدوية تعبر عن موروث كل منطقة وتنوعها وجمال فنها وسعة أفق الفنان الشعبي ومهارته في صناعة الحرف اليدوية من العصا إلى الكرسي إلى أواني الطبخ والسيوف القديمة المتوارثة.
هذا المجهود الكبير من الفنان الراحل حجازي، لم تقدم المؤسسات الرسمية أي مساعدة لحفظه في متحف يحفظ هذا التراث، ومع رحيله فإن كل هذا التراث الشعبي والفن اليدوي ضاع، وأتت الحرب على ما تبقى من موروث شعبي كانت تحتفظ به الأسرة في مكان ما في البيت، فونغرافات تعود إلى ثلاثينات القرن العشرين كانت تستمع بها الأسرة إلى خليل فرح وسيد درويش وإبراهيم عبدالجليل وأسمهان. كل هذا التراث تم الدوس عليه بكل ما تحمل بعض النفوس من شرور.
سنكتشف بعد الحرب أننا فقدنا الخيط والإبرة وصاج عواسة الحلو مر، وإذا لم نفقد الصاج فإننا نكون قد فقدنا الأيادي الماهرة المدربة على صناعة (الأبري: مشروب يصنع من الذرة ويقدم في شهر رمضان).
التحدي
عملت الحرب معاول الهدم في البنية العمرانية للعاصمة الخرطوم التي تحتوي على آثار من قهاوٍ قديمة تنتمي للعصر الفيكتوري بقياس العمارة، وأشهرها مقهى (أتني) المحافظ على الطابع القديم في تقديم القهوة والعصائر. ومع تبدلات الأيام فإن الغياب سيشمل الموروث الشعبي والإفرنجي نسبة للفرنجة، وهذه البقعة من سوق المدينة تسمى بالسوق الإفرنجي في مقابل السوق العربي الأكثر حفاظاً على التراث الشعبي في المطاعم والأكلات الشعبية (كسرة وملاح التقلية والقراصة – أكلات شعبية لا تزال تمثل جزءاً من السوق والحفاظ على إرث يعود لأكثر من مئة عام).
اختلاف الموروث الشعبي بين بيئة وأخرى في السودان هو أحد تجليات التنوع الثقافي والاجتماعي، لذلك فإن سؤال الحفاظ عليها هو سؤال وطلب إجابة رسمية عن دور كبير للدولة لتسجيله كتراث شعبي وجعله مدخلاً للسياحة والتواصل بين الشعوب، فالموروث الشعبي في السودان وبقية الأوطان العربية مرآة صافية لهوية الشعوب وذاكرة تختزن جمال البساطة وعمق القيم الإنسانية. والذاكرة الجمعية في حياة الشعوب، تظل الحارس الأمين لما تبقى من ملامح الهوية، فهي المرآة التي تعكس تفاصيل الحياة اليومية، وتعيد إلينا صدى ضحكات الطفولة وأصوات الأجداد وهم يحكون الحكايات أو يصوغون بأيديهم ما تحتاجه البيوت من أدوات وحِرف. الموروث الشعبي ليس مجرد ألعاب أو أغنيات أو عادات متوارثة، بل هو نسيج متكامل من القيم والمعاني والجماليات التي تشكل وجدان الأمة وتمنحها خصوصيتها وسط عالم سريع التبدل. ومن هنا يجيء الحديث عن موروث الآباء كوقفة أمام العطر المتبقي من تلك الأيام، ومحاولة لإدراك قيمته قبل أن يذوب في صخب الحداثة. فالحفاظ على التراث ليس نوستالجيا للماضي، بل هو استثمار للمستقبل، لأنه يربط الأجيال بجذورها ويمنحها الثقة في مواجهة التحديات وصناعة غدٍ أكثر توازناً وإنسانية.

ذو صلة