في زمنٍ تتسارع فيه الأخبار، وتُختصر الحكايات في مقاطع لا تتجاوز الدقيقة، يبدو أن مكان التراث الشفهي، ذلك المتكئ على الأهازيج والشعر الشعبي والقصص المنقولة من أفواه الجدّات، بدأ يضيق. ولكن، ماذا لو قلنا إننا نستطيع -بل من واجبنا- أن نمنح هذا التراث جناحين جديدين؟ جناحين رقميين ينبضان بلغتنا ولهجتنا، ويتحدثان بلسان جيلنا، ويصلان إلى ملايين الشباب؟
أنا شاب من هذا الجيل، وجدت في وسائل التواصل الاجتماعي منبراً لصوت أجدادنا، ومساحة تحيي ما كان سيُنسى، وتحول الحكاية إلى مرآة يراها الشاب ويقول: (هذا أنا.. هذا منّي).
الأهزوجة ليست ترفاً.. إنها نَفَس شعب
دعونا نبدأ من مشهد مألوف: زفّة عرس في البادية أو القرية، يصدح فيها الصوت:
(شباب قوموا العبو والموت ما عنّه
والعمر شبه القمر ما ينشبع منّه)
ما يبدو أنه نشيد فرح هو في الحقيقة فلسفة حياة، رسالة ضمنية تقول: انهضوا، فأنتم عماد المستقبل. هذه الأهزوجة التي ترددها الجدّات اليوم، هي ذاتها التي ربما قيلت على ظهور الخيل قبل عشرات السنين.
هكذا كان -ولا يزال- الشعر الشعبي سجلّ الناس، لا يُكتب على الورق بل في الصدور، ولا يُحفظ في المكتبات بل في القلوب. فيه نجد المواقف البطولية وصفات الكرم ونُظم العدالة والعلاقات الاجتماعية، وحتى طريقة تقديم القهوة.
حين يتحول الشعر إلى ذاكرة جمعية
(الشعر ديوان العرب) جملة معروفة، لكنها لا تكتمل دون إدراك أن ديوانهم الحقيقي لم يكن في قصائد الفصحى وحدها، بل في الشعر الذي وُلد من بيئتهم: في المضافات، وعلى موائد العزاء، وفوق السروج، وبين جدران الطين، وفي السمر، وعند المهد.
خذ هذا البيت مثلاً:
(اقطع يمينك لا تهين الكفوف
والعَون تخذله العزايم تجوف)
هنا لا نقرأ أبياتاً جمالية فحسب، بل مبادئ أخلاقية: الكرامة، العهد، والوفاء. هذا التراث لا يرفّه فقط، بل يعلّم ويربّي دون الحاجة إلى مؤتمرات أو نظريات.
الموروث الشفهي.. الإعلام الأقدم والأصدق
قبل ظهور الصحافة والإذاعة، كان الناس يتناقلون الخبر والأثر عبر الأهازيج، فإذا وقعت معركة وُلد بيت شعر، وإن عمّ الفرح القبيلة أُلفت مهاهاة، وإذا فُقد بطل نشأت مرثية تحفظه أكثر مما يحفظه أي تمثال.
في توثيقي للأغاني المرتبطة بالمواقف الوطنية، وجدت أن أحداثاً عظيمة مثل معركة الكرامة ما تزال حيّة في صوت الجدّات، ومن بين تلك الأهازيج:
(بيرق الوطن رفرف
فوق رووس النشامى
يوم الملاقى نعرف
كيف نكيد الخصاما)
كل كلمة هنا تُحاكي حدثاً، وكل جملة تختصر تاريخاً، وكل صوت يُعلن عن ذاكرة لا تموت.
بيت الشَّعر.. والواسط الذي لا يميل
من أبرز ما أنقله اليوم من خلال المحتوى الرقمي هو فلسفة بيت الشَّعر البدوي. فالواسط -وهو العمود الذي يرفع البيت- كان يُشبَّه دوماً بشيخ القوم:
(شيخ القوم مثل الواسط ببيت الشَّعر
ما يميل والبيت يضل ثابت لو لفّته الرياح)
تأمل هذا البيت، ففيه شرح دقيق لدور القيادة والثبات والمسؤولية، دون الحاجة إلى محاضرات أكاديمية. هذه المعاني البسيطة العميقة تُرسّخ في الذاكرة، وتشكل ملامح الشخصية العربية التي نعتز بها.
بين القضاء العشائري وفناجين القهوة.. حكمة شعب
في منشوراتي ومقاطع الفيديو التي أشاركها، أتعمق في عادات القهوة والضيافة وآداب الطعام في الريف، والعلاقات الاجتماعية التي تجعل من (الخال) سنداً، و(العم) ظهراً، و(الأم) وطناً لا يُمس.
أتحدث عن القضاء العشائري، وكيف أن المجالس التي كانت تُعقد تحت ظل السدر أو في صدر المضافات لم تكن فقط لحلّ الخصومات، بل كانت محاكم للعدل تستند إلى القيم قبل القوانين.
كل تفصيل من هذه التفاصيل، حين يُروى بلغة جيل اليوم، يتحول من (تراث منسي) إلى قيمة معاشة.
الرقمنة ليست أرشفة.. بل إحياء
يظن بعض الناس أن (رقمنة التراث) تعني تحويله إلى ملفات محفوظة على الإنترنت، وأنا أقول: لا، الرقمنة هي فن إعادة نبض التراث.
عبر الفيديو، والبودكاست، والقصص القصيرة، أُعيد سرد الحكايات بلغة اليوم، دون أن أفقد روح الماضي. وهذا هو التحدي الحقيقي: أن نُقرّب الماضي من الشباب دون أن نجعله يبدو غريباً أو متحفياً.
جلسة مع (أبو عواد).. كيف يُصنع التاريخ بالأهزوجة؟
في أحد توثيقاتي جنوب الأردن، التقيت رجلاً يُدعى (أبو عواد) تجاوز الثمانين، تحدّث لي عن موقفهم في عام 1956 لدعم قرار تعريب قيادة الجيش. قالها وهو يلمع فخراً:
«قمنا وغنّينا وقلنا:
يا باشا عبدالله ما هِنتْ
عربّت الجيش وإنت اللي فَكّيت».
كانت لحظة مؤثرة، رأيت فيها كيف يمكن لبيت شعر أن يختصر موقفاً وطنياً، وكيف تكون القصيدة أصدق من الوثائق لأنها خرجت من أفواه الناس لا من مكاتبهم.
نحن أبناء الحكاية.. ولسنا هوامشها
الكتب تؤرشف، لكن الحكاية تُحيي. والأهزوجة حين تُروى في قالب معاصر تكون صوتاً حيّاً للهوية، وتُعيد بناء الجسر بين الجيل الجديد وجذوره.
في كل مرة أروي فيها قصة عبر المحتوى الرقمي، أشعر أنني أُعيد شيئاً من التوازن، وأقول لأبناء جيلي:
(لستم غائبين عن هذه القصص، أنتم جزء منها.. فقط اسمعوها بصوتكم).
ختاماً: لا تموت القصائد.. إن نطق بها الشباب
حين أقرأ بيتاً مثل:
(والبيت يا اللي انبنا رنّت فناجيله
شيخٍ بلا عزوته قلتْ مراجيله)
أدرك أن الشعر الشعبي لم يُخلق فقط للتغنّي، بل للتعريف والتوثيق والتربية والفخر.
نحن جيل يملك الأدوات: الكاميرا، والميكروفون، والمنصة.. وكل ما ينقصنا هو القرار بأن نحمل صوت أجدادنا ونسير به إلى العالم.
فهل من فخر أعظم من أن نكون جسراً بين صوت الماضي ووجدان المستقبل؟
وهل من دور أجمل من أن تكون القصيدة وسيلتنا لحفظ الهوية؟
أنا أؤمن بذلك، وأعمل عليه كل يوم.