مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

فن الكسرة من الموروث الشعبي في الحجاز

يعد شعر الكسرة أحد الموروثات الشعبية البارزة في منطقة الحجاز عموماً، وفي منطقة الينبعين تحديداً. والكسرة شعر موجز مركز، يأتي على وزن مجزوء البسيط (مستفعلن فاعلن فعْلن، أو مستفعلن فاعلن فاعلان)، ويتكون من بيتين بقافيتين مختلفتين، تتحد القافية الأولى في الشطرين (الغصنين) الأول والثالث، والقافية الثانية في الغصنين الثاني والرابع، كقول الشاعر:
في نار ما تنطفي بالما        لي قلب يا أهل المودة طش
مثل المؤشر على الظلما        لو كان كل العباد ترش

واختلف في سبب تسمية الكسرة، فذكرت مقولات كثيرة منها مقولة د.عبدالله المعيقل بكون الكسرة سميت بذلك نتيجة لانكسار الصوت وتنغيمه من قبل المغني، وهذا الذي ذهب له د.عبدالله يتسق مع دلالات حركة الكسرة في اللغة، لكن أرجحها لدي كون الكسرة موجزة مكثفة فشبهت بكسرة الخبز (النتفة من الخبز) أو القطعة من الشعر، لأن هذه التسمية تتسق مع فنية بناء الكسرة وإبداعها لتأتي رشيقة مختصرة معبرة عن معانٍ عميقة في أوجز صورة.
ولا يعرف تاريخ محدد لظهور الكسرة، كما لا يمكن الجزم بظهورها في مكان بعينه ابتداء، وإنما عرفت على طول ساحل البحر الأحمر من شمال أملج وحتى القنفذة وجازان، وامتدت إلى مكة والمدينة والقرى المتاخمة لها، لتكون موروثاً حجازياً، لكنها عاشت أبهى صورها في منطقة الينبعين، حتى نسبت لها في غالب الأحيان فيقال: الكسرة الينبعية أو كسرة ينبع، وكان للعبة (الرديح) الشهيرة -وهي لعبة شعبية حوارية بين شاعرين- الأثر البالغ في ازدهار الكسرة، وأصبح فن الرديح منبراً ثقافياً يتطلع إليه جميع شرائح المجتمع دون تمييز أو طبقية في المناسبات المختلفة كالزفاف والأعياد وغيرها من المناسبات السعيدة، وبرز شعراء كبار في فن الرديح كأحمد سليمان الريفي وابن مدهون والكرنب والقريشي والعروي والدميخي وقائمة طويلة لاتحصى، وأصبحت المحاورات ذات سمة شعرية حوارية تفاعلية، تشعلها الصفوف التي تتبع كل شاعر، وظهرت لهذه اللعبة أو هذا الفن قواعد وأصول مرعية، فالرديح ينتظم على شاعرين متقابلين، ولكل شاعر صفه المعروف أفراده باسم (البحري)، وله مغنون اشتهروا بقوة أصواتهم وجمالها، فيبدأ الرديح بكسرة السلام من الشاعر القادم على الشاعر المقيم في مدينته أو قريته، ويقوم المغني بغناء كسرة السلام، ثم يبدأ دق (الزير) في ساحة اللعب المعروفة باسم (الصابية)، ولايتوقف حتى يطلب الشاعر المقابل ذلك، ليقوم بالرد على السلام بالترحيب من خلال مغنيه الخاص بصفه مع اجتماع (بحريته) حول المغني والتصفيق بعد الانتهاء إيذاناً بدق الزير ومواصلة اللعب ثانية.
لقد أصبحت (صابية) الرديح ميداناً لمناقشة شتى القضايا، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية، وحسبك أن كسرة الشاعر الكرنب القائلة:
كل ما اتجهنا لنا مع درب
نبغى بعيد المدى يقرب
نلقى طريق المروح صعب
نرجع ونلقى الطريق أصعب
روي أن الأمير عبدالله الفيصل قال إنها تنطبق على قضية فلسطين.
في حين يذهب القريبون بأنها مشكلة عائلية بين عريس وعروسه استعصت على الحل، ليأتي الرد من الشاعر أحمد سليمان الريفي قائلاً:
وسط لهم من قريب القرب
ينصح معك والبخت يغلب
وانت عليك اللزم لا تكب
مادام منسوب للمنسب
وقد يحتكم الشعراء في شأن الحقوق كقول الشاعر:
أبغى قبل ما ادعي باعرف
ميرادنا في الأمر يرعي
الحق يبغى يقيمه عرف
وألا يقيمه حكم شرعي
ليرد عليه الشاعر المقابل:
اشرع بدعواك وانا اشرف
حسب الذي فيه يستدعي
نحكم بها حسب ما نعرف
في الشرع والا حكم فرعي
ولئن اعتبر فن الرديح المعرض الحي لشعر الكسرة، فقد لحقت به العديد من الممارسات والطقوس والعادات، ومنها (العتمة) وتعني مباغتة الشاعر بصفه من قريته قرية أخرى وإحياء لعبة الرديح، وكانت لياليها مشهورة بينبع النخل، ومن الممارسات كذلك الرقصة بالسيف التي يدرب الكبار أبناءهم عليها لكونها إحدى سمات الرجولة، وكذلك (التحييس) وهو الرقص في (صابية) الرديح بثوب متسع الأطراف من أسفله، فيبدو أثناء الرقص كدائرة تدور برحاها، وتعد ثياب الرديح من الأزياء التراثية الخاصة.
كما برزت صناعة الزير، ولها أناسها المعروفون، وكذلك الدفوف أو الطيران (جمع طار). ومن الممارسات كذلك ما يعرف بـ(الإرداف) عندما يقوم شاعر من خارج الصف بالإرداف على شاعر آخر على نفس الوزن والقافية، وهو أشبه ما يكون بالمعارضة في الشعر الفصيح. ومن طقوس الرديح كذلك (التعريب)، ويتمثل في قيام بحرية الشاعر المقابل بدق الزير على رأس الشاعر الآخر متى تأخر في الرد أو خالف القافية التي دار الحوار عليها ابتداء، وامتدت عادات الرديح إلى الطعام الذي يقدم للرداحة بعد صلاة الفجر، حيث يمتد اللعب من بعد العشاء إلى صلاة الظهر في اليوم التالي وقد يطول بعض حين، فيقدم لهم الثريد (قطع اللحم والمرق والفطير البلدي).
ولم يقتصر أثر شعر الكسرة على موروث (الرديح) وإنما ظهرت فنون شعبية أخرى مرتبطة بها مثل (زيد) و(الحرابي) و(الخبيتي)، كما ظهرت في نجد الهجينية، وهي على نفس وزن الكسرة وطريقة تقفيتها، لكنها لا تقتصر على أربعة أغصان وإنما تأتي مطولة.
ولو نظرنا إلى أهمية الكسرة في المجتمع، لوجدناها تستند إلى جوانب متعددة، ففضلاً عن كونها المادة الحية للألعاب الشعبية التي تمارس، وكونها وعاء لغوياً لمشاعرهم وخلجاتهم؛ جاءت الكسرة موثقة للأحداث كقول الشاعر أبو مدهون:
سال الجدي مع رقيب سهيل
والنجم أبو ذيل وايش جابه
اللي مضى مشتهر بالحيل
واليوم هكب بمغيابه
ويروي بعضهم أن آخر ظهور لمذنب هالي قبل هذه الكسرة كان عام 1251هـ
كما حافظت الكسرة على القيم المجتمعية مثل صلة الرحم والتمسك باللحمة كقول الشاعر:
لعلها ماتجيني فيك
زهود الأيام يا ابن آخي
يا شاد عضدك بعضد آخيك
يوم إنه الغير متراخي
كما جاءت الكسرة موجهة للناس داعية لحسن التعامل كقول الشاعر:
الله من زايد الاحسان
سخر لاجل خدمتك أجناس
احذر من الظلم والعدوان
والسخرية واحتقار الناس
كما وثقت أسماء الأمكنة كقول الشاعر:
يارب تسقي بدر والخيف
والواسطة وأم ذياني
حتى الأحبة يجون الصيف
وأشوف مدعوج الأعياني
وفيما يخص الإثراء الثقافي، كانت الكسرة ملهمة لعقد المجالس النقدية الخاصة بها في المجالس والمقاهي أو في مساء الرديح على جانب من الصابية، إذ يقوم بعض المهتمين بمراجعة وتحليل الشعر والسجال الدائر لمعرفة جديده من قديمه المقتبس وجودته أو قصوره، وكل ذلك يحقق ثراء فكرياً وسط حجج تساق وأدلة تؤيد أو تنقض.
كما ظهرت صور أخرى لكتابة شعر الكسرة كالمراسلات التي تتم بعيداً عن ساحة الرديح لمناقشة موضوع ما، ومن أجمل المراسلات تلك التي جرت بين الشاعرين عواد عبدالغفار وعبدالرحمن بن صديق،
إذ يقول عواد معاتباً:
ما قلت أشاطرك في الأحزان
وألا أعزيك في عمك
وأنت الذي للوفاء عنوان
ما أقدر أخاصمك وأذمك
ليرد عليه عبدالرحمن بن صديق قائلاً:
مهما تعذرت عما كان
ووجهت أعذارنا يمك
العذر ما يوفي النقصان
ولو كنت مهموم من همك
ومن أشكال الكسرة كذلك (الزهورات) جمع زهرة، وتعني الخاطرة التي يقولها الشاعر تعبيراً عن موقف ما، وظهر مجموعة من الشعراء الذين طوروها كثيراً، مثل: عبدالعزيز رويشد وعبدالرحمن الدميخي وطارق قاضي وعطية الرفاعي..
ومن أشكالها كذلك الغبوات، إذ تنظم الغبوة أو اللغز من خلال الكسرة، واشتهر حالياً بذلك الشاعر محمد جميل الريفي.
وأخيراً، جاءت الكسرة ملهمة للكتابة حولها، فبرزت مؤلفات عديدة مثل كسرات الينبعين لأحمد عطا قاضي، والشاعر الكرنب لمحمد مسعود والشاعر أحمد سليمان الريفي، وكذلك كتاب الغبوات لمحمد جميل الريفي والشاعر ذيبان الفايدي لفيصل فران، وديوان الكسرات لعايش الدميخي، كما كتب المؤرخ الأستاذ عبدالرحيم الأحمدي عدداً من المؤلفات حول شعر الكسرة.. ولو أردنا تتبع هذا الفن لطال الحديث وضاقت المساحة، ولكن حسب القلادة ما أحاط بالعنق!
وعلى ضوء ما سبق، يعد فن الكسرة من التراث الذي يتعين الحفاظ عليه وتوثيقه ودعمه ليبقى وعاء حافظاً لقيم المجتمع وعاداته وممارساته المختلفة، كما يتعين البحث عن الوسائل المعينة على استمراره وفق المستجدات وبما يحقق منافع اقتصادية واستثمارية، وأثراً اجتماعياً، لكونه من التراث الإنساني غير المادي الذي يتصل بشريحة كبيرة من المجتمع، ولتنوع مخرجاته، ولعل هيئة التراث معنية بذلك بشكل أساس، لكون هذا الموروث يتسم بالقدرة على الجذب والانتشار والتأثير والقابلية للتطور والمواكبة.

ذو صلة