مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

الفضاء المسرحي وأشكال الفرجة العربية

يمثل الفضاء المسرحي إحدى الركائز الأساسية في فهم البنية الجمالية والسوسيولوجية للعروض المسرحية، وقد احتل موقعاً محورياً في الدراسات المعاصرة التي تبحث في تحولات العرض وأشكال التلقي. رغم أن مصطلح (الفضاء المسرحي) لم يدخل حيز التداول الأكاديمي إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، فإن ممارسات تشكيل الفضاء المخصص للعرض سبقت ذلك بكثير، وترافقت مع تطور أنماط التعبير الدرامي في مختلف الثقافات. وفي السياق العربي، وتحديداً في بلدان المشرق، يمكن تتبع مسارات هذا الفضاء من الدائرة الشعبية التي اعتمدها القصاصون في الأسواق، مروراً بشاشة مسرح الظل، وصولاً إلى بناء فضاءات معمارية مخصصة للعروض المسرحية الحديثة. والملاحظ أن أشكال الفضاء المسرحي لم تتعاقب وفق منطق الإزاحة أو القطيعة، بل ظلت متجاورة ومتفاعلة ضمن النسيج الثقافي العام، ما يمنح التجربة المسرحية في هذه المنطقة طابعاً تراكمياً وخصوصية فنية تستحق الوقوف عندها بالدراسة والتحليل.
الفضاء المسرحي وفنون الفرجة العربية
يشكل (الفضاء المسرحي) في فنون الفرجة العربية التقليدية إطاراً ديناميكياً يُبنى على تزامن الأبعاد الثلاثة: فضاء العرض، وفضاء المتفرج، والفضاء الرمزي أو الثقافي. في هذا المشهد التزامني، لا تُفصل العناصر المكانية عن التجربة الجماعية والجمالية، إذ إن الفعل المسرحي العربي نشأ تاريخياً ضمن فضاءات مفتوحة، تتداخل فيها الحياة اليومية مع التعبير الفني، دون الحاجة إلى بناء مسرحي مغلق أو بنية معمارية دائمة. وعلى خلاف التجربة الأوروبية التي ميزت بين المسرح كمكان والمسرح كفعل، حافظت فنون الفرجة العربية على مسرح بوصفه امتداداً للعيش الجمعي، يتفاعل مع المكان والزمان دون فواصل صارمة.
فإذا كانت الموسيقى تُوجد في الزمن، والرسم في الفضاء، فإن المسرح العربي التقليدي لا يُتصور خارج التقاء الزمان والمكان والفعل معاً. وعلى الرغم من أن المسرح العربي الحديث في القرن العشرين قد تفاعل مع أنماط العرض الغربية، إلا أنه تأثر أيضاً بأطر الفرجة الشرقية، حيث تُؤدى العروض في الشارع أو الساحات العامة، دون أن تفقد الصلة بجوهر الفعل المسرحي بوصفه حدثاً عفوياً، حياً، وشعبياً.
ومن بين أقدم أشكال الفرجة في المشرق العربي: عروض الحكواتي، ومسرح الممثل الواحد، ومسرح الظل، ومسرح الأراجوز. وهي جميعها تنتمي إلى تقاليد شعرية وملحمية شفوية، تحتل فيها الكلمة موقع الصدارة. وقد ارتبطت هذه الأشكال بأنماط من الأداء التفاعلي، حيث كان المتفرج حاضراً وفاعلاً في مسار العرض، وشريكاً في إنتاج المعنى.
ويعد فن القص أحد أبرز هذه التقاليد، إذ ظهر بأسماء متعددة مثل: الحكواتي، السامر، القوال، المداح، المقلد، والمداح، وهي تسميات تعكس تداخل وظائف السرد، والمحاكاة، والتقليد الصوتي. وقد وثق الباحث يوسف رشيد حداد في كتابه (فن الحكواتي، فن الممثل) عدداً من أنماط السرد الشفهي التي تنطلق من الذاكرة الجمعية، وتتغذى من السرد البطولي، والأساطير القَبَلية، والحكايات الدينية.
ومع ترسخ الإسلام، برز نشاط القصاصين الذين واصلوا تقاليد السرد في فضاءات دينية كالمساجد، إذ كان بعضهم يفتتح سرده بعد الصلوات، مستثمراً اللحظة الروحية في استثارة مشاعر الجمهور. وقد تميز الأداء الجسدي لديهم بطابعه التعبيري القوي، حيث يُوظف الجسد والإيماءة والنبرة لتعزيز أثر الحكاية، بل ويصل إلى حدود الأداء المسرحي الكامل، باستخدام الإكسسوارات، وتأدية جميع الشخصيات، واستدعاء المؤثرات الصوتية من الطبيعة أو الحياة اليومية.
ومن اللافت أن الخشبة لم تكن محددة ببنية معمارية، بل كانت تُبنى رمزياً في أي مكان: سوق، ساحة، أو حتى مسجد. ويتشكل جمهور هذا الفضاء عادة في دائرة، يجلسون على الأرض كتفاً إلى كتف، وفي المركز يتموضع الراوي. ومن خلال قوة الكلمة وحدها، يُحول الراوي سلة فارغة إلى نبع ماء، أو كومة قماش إلى تنين أسطوري، في عملية تخييلية تشترك فيها كل الحواس.
ويمتلك المتفرج في هذه الفرجة الشعبية قدرة تلقائية على التفاعل مع الفضاء الرمزي، إذ لا يميز بين الواقع والتخييل، ويقبل التحولات المكانية والزمانية كجزء من قواعد اللعبة المسرحية. وغالباً ما يكون له دور تداخلي: يسأل، يقاطع، يطلب تكرار مشهد، أو تغيير نغمة، وهو ما يجعل العلاقة بين المؤدي والجمهور علاقة حية ومتقلبة.
هذا النموذج من (الفضاء المسرحي) يبدو غير مألوف في السياقات الغربية الحديثة، حيث يرتبط العرض بالمسرح المغلق والبنية الميكانيكية. أما في التجربة العربية التقليدية، فإن الفضاء المسرحي قابل للتشكل والتحول، ويُبنى على احترام رمزية المكان، دون الحاجة إلى تأثيث ثابت أو ديكور معقد. فقد (كانت الخشبة تُبنى وفق مبدأ الكرة)، بحسب تعبير بعض الدارسين، أي فضاء مفتوح يتنفس فيه الجمهور والممثلون الهواء ذاته، ويتشكل الديكور بحسب الحاجة اللحظية.
ويُعيد هذا الفضاء الدائري تشكيل تصور العالم ضمن التصور الإسلامي التقليدي، حيث تتصل الرمزية المعمارية -مثل الشكل الدائري- برؤية كونية للكون، تتجلى في بنية مغلقة، مكتفية بذاتها، ومنفتحة في الوقت ذاته على المعنى المقدس. الفضاء المسرحي هنا ليس حيزاً فنياً فحسب، بل هو امتداد لنسق من القيم الرمزية والدينية التي تشكل بنية المجتمع ورؤيته للعالم.
في هذا السياق، يبدو العرض المسرحي الشعبي العربي -في انفتاحه، وارتباطه بالبيئة، واعتماده على الكلمة والجسد- تجربة فنية ووجودية متكاملة، تستدعي إعادة قراءة نظرية لمفاهيم الفضاء، التلقي، ودور المتفرج، بما يتجاوز المنظور الغربي التقليدي للمسرح.
خصوصية الفضاء المسرحي في عروض مسرح الظل ومسرح الدمى
يمثل مسرح الظل ومسرح الدمى وبخاصة (خيال الظل) و(الأراجوز) نمطين فرجويين تقليديين شهدا انتشاراً واسعاً في البلدان العربية، وشكلا جزءاً أصيلاً من الثقافة المسرحية الشعبية على امتداد قرون. وقد مهدا لظهور شكل جديد من العرض المسرحي، يُغاير العرض التقليدي الذي كان يتمحور حول شخصية الراوي المفرد، والذي كانت (خشبته) الرمزية تمثل كوناً مجرداً متخيلاً. ففي مسرحي الظل والدمى، ينتقل الفضاء المسرحي إلى بنية تمثيلية تستخدم عناصر بصرية وشكلية ترمز إلى أماكن محددة، وتُبنى وفق منطق التبسيط والتكثيف الرمزي.
تُفسر شعبية هذين النوعين المسرحيين في الثقافة العربية بعدد من العوامل، أبرزها توحد اللغة العربية الفصحى، والدين الإسلامي المشترك، ما ساعد على تشكل بنية شبه موحدة للشخصيات والنصوص المسرحية، إلى جانب تشابه تقنيات صناعة الدمى وآليات اللعب المسرحي المتبعة عبر الأقطار العربية. وقد تطورت هذه الأشكال المسرحية ضمن منظومة من القواعد والمبادئ الراسخة التي أفرزتها التقاليد، بحيث أصبح المتفرج معتاداً على بنية شكلية متكررة، تُقابلها مضامين معاصرة تعبر عن هموم الحياة اليومية، ما ساهم في اجتذاب جمهور واسع من مختلف الطبقات الاجتماعية.
أدخل الباحث المصري عبدالحميد يونس مصطلح (العرض الوسيط) إلى حقل البحث المسرحي العربي، في دراسته (مسرح الظل والحياة المسرحية قبل ظهور المسارح الحديثة)، مشيراً إلى طبيعة هذه العروض التي تمزج بين الأداء الحي خلف الشاشة، والتجسيد الظلي أو الدُمى على الشاشة الظاهرة للمتفرج (مجلة العربي، 1957، ص. 14-19). وتُقدم الشخصيات في هذه العروض بوصفها كائنات متحركة تتحدث وتتصارع وتضحك، ويتحكم بها لاعب الدمى أو العراب، وهو ما يكشف عن طبقة ميتافيزيقية تُحيل إلى علاقة رمزية بين الإنسان والخالق، حيث تتحرك الشخصيات وفق إرادة خارجية تذكر بفكرة القَدر، كما ورد في القرآن الكريم: (وَأَيْنَمَا تُوَلوا فَثَم وَجْهُ اللهِ) (البقرة 115).
يعتقد عدد من الدارسين أن انتشار مسرح الظل في الشرق العربي، بدلاً من المسرح التمثيلي القائم على الممثل يرتبط بمراوغة الطابع العربي، حيث لجأ المؤدون إلى إخفاء الجسد البشري خلف الشاشة، بما ينسجم مع الحساسيات الثقافية والدينية، مفضلين الظلال على التشخيص الكامل.
ورغم وجاهة هذه الفرضية، فإن البعد الرمزي للظل في السياق الإسلامي يبدو أكثر إلحاحاً. فالظل، في عروض خيال الظل، يظهر لحظة الإضاءة ويختفي بانطفائها، مما يمنحه طابعاً زمنياً مؤقتاً يُحاكي فعل الخلق والعودة إلى العدم، كما يرد في قوله تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) (طه 55). فالنور، الذي يُنتج الظل، يُمثل مجازاً للحضور الإلهي، بينما يُجسد الظلُ الإنسان بوصفه كائناً مخلوقاً فانياً، ما يُضفي على الفضاء المسرحي بُعداً أنطولوجياً عميقاً يرتبط بفلسفة الوجود في التصور الإسلامي.
وقد اتخذ هذا الشكل الفني في اللغة العربية تسميات متعددة، من أشهرها: (خيال الظل)، وهو مصطلح يحمل في ذاته دلالة مجازية توحي بالمُتخيل والظاهري في آن، ما يعكس طبيعته الأدائية المعتمدة على الخداع البصري والمجاز المكاني. ورغم الانتشار الواسع لهذا الفن، خصوصاً في فترات ما قبل الحداثة، فإن شعبيته بدأت تتراجع تدريجياً مع بدايات القرن العشرين، بسبب ظهور السينما الحديثة التي جذبت الجمهور بعيداً عن أشكال الفرجة التقليدية.
ومع ذلك، احتفظ مسرح الظل بمكانته خلال المناسبات الدينية، خصوصاً في شهر رمضان، حيث كانت تقام العروض في الأسواق والساحات العامة قبيل السحور. فقد كانت الشوارع تمتلئ بالناس عقب الإفطار، ويتوزع الطعام على العربات اليدوية، بينما تتنقل العائلات بين عروض البهلوان، والحكواتي، واللاعب، والساحر. لكن عروض خيال الظل كانت تحظى باهتمام خاص، إذ كان المؤدون يخصصون لكل ليلة عرضاً مختلفاً من (الريبرتوار) الشعبي المتداول.
وتُقام هذه العروض في بيئة تذكر بعروض القصاصين، مصحوبة أحياناً بفرقة موسيقية صغيرة، وتُستخدم فيها أدوات بسيطة تشمل الشاشة البيضاء ومجموعة دمى مصنوعة يدوياً من القصب والجلد. وكان يُطلق على صانع الدمى أو محركها اسم (النقاش) أو (القصاص)، وهي تسميات تُحيل إلى دوره كراو وحكواتي، يُعيد إنتاج الحكاية من خلف الشاشة مستخدماً تقنيات الصوت والحركة والإيماءة.
لقد شكل الفضاء المسرحي في عروض الظل والدمى أنموذجاً بديلاً عن البناء المسرحي الغربي التقليدي، من حيث بنيته، وجمالياته، وعلاقته بالجمهور. إذ تميز هذا الفضاء بطابعه المؤقت، المحمول، والمتحول، القائم على حضور مباشر للخيال الشعبي، وتوظيف رمزي للضوء والظل، ما يجعل منه شكلاً تعبيرياً متكاملاً يعكس التصورات الثقافية والدينية للوجود، والجمال، والزوال.
يكشف الفضاء المسرحي في فنون الفرجة العربية عن نمط أدائي حي ومتفاعل، يرتبط بالبيئة والثقافة والرموز الجمعية، ويتجاوز البنية المادية المغلقة للمسرح الغربي. وقد اتسم هذا الفضاء بمرونته وانفتاحه، وبقدرته على دمج الأداء والجمهور في تجربة جماعية ذات طابع شعبي وتخيلي. وإذ تسهم هذه الخصوصية في بلورة فهم مغاير لمفهوم العرض، فإنها تدعو إلى إعادة النظر في النظريات السائدة حول الفضاء المسرحي من منظور ثقافي محلي متجذر.

ذو صلة