مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

المتحف المصري الكبير.. حين ينهض التاريخ ليحكي قصته من جديد

في الأول من نوفمبر 2025، تفتح الحضارة الفرعونية أبوابها على أوسعها في المتحف المصري الكبير، المشروع الثقافي الأضخم في القرن الحادي والعشرين. ليس مجرد افتتاح لمتحف، بل هو ولادة جديدة لواحدة من أعظم حضارات الأرض، ودعوة للاحتفاء بما صنعته البشرية في عصور سحيقة ونستمد منها الإلهام لبناء حاضر أفضل.
رحلة عبر الزمن
يقع المتحف على مقربة من أهرامات الجيزة، وكأنه وُضع عمداً في حضن أجداده ليواصل الحكاية. مساحته الهائلة، التي تتجاوز 300 ألف متر مربع، تجعله مدينة أثرية بحد ذاتها. يضم 12 قاعة عرض، كل واحدة منها تفوق في حجمها متاحف كاملة في بعض دول العالم.
منذ وضع حجر الأساس عام 2002، حمل المشروع طموحاً أكبر من مجرد تخزين قطع أثرية، كان الهدف بناء مركز حضاري متكامل يجمع بين البحث العلمي، الترميم، والتعليم، إلى جانب كونه صرحاً سياحياً عالمياً. ولهذا أنشئ بجواره أكبر مركز لترميم الآثار في الشرق الأوسط، ليضمن أن تبقى الكنوز المصرية حيّة لأجيال قادمة.
كانت فكرة المتحف هي الحلم الذي طارد وزير ثقافة مصر الأسبق الفنان فاروق حسني الذي يروي لـ(المجلة العربية) أن الفكرة راودته أثناء غداء مع رئيس معهد العالم العربي بباريس حينما قال له المعماري الإيطالي فرانكو أريالتشي إن متحف التحرير عبارة عن مخزن آثار، من تكدس الآثار بداخله، وهو ما استفزه للقول بأن مصر ستبني أكبر متحف في العالم، فسأله أين؟ فقال على الفور ودون تفكير بجوار الأهرامات. عاد حسني إلى مصر واقتنع الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك بالفكرة واصطحبه لمعاينة الموقع وحصل على موافقة فورية، ومن ثم حصلت مصر على دعم اليابان وإيطاليا واليابان، وكلفت دراسة الجدوى 4 ملايين دولار تحملتها إيطاليا، بينما قدمت اليابان قرضاً بقيمة 300 مليون دولار، ليولد المبنى الضخم الذي تمتد واجهته 800 متر بارتفاع 45 متراً.
الفرعون الذهبي يعود بكامل رونقه
اللحظة الأكثر انتظاراً مع افتتاح المتحف، هي عرض المجموعة الكاملة للفرعون الذهبي توت عنخ آمون لأول مرة في مكان واحد. أكثر من خمسة آلاف قطعة اكتُشفت عام 1922 بوادي الملوك على يد هوارد كارتر، ستتجاور أخيراً لتروي للعالم تفاصيل حياة وموت الملك الصغير الذي اعتلى العرش طفلاً ورحل في التاسعة عشرة من عمره.
من بين هذه الكنوز، يبرز القناع الذهبي الشهير، رمز الحضارة المصرية وأيقونتها العالمية. قطعة فنية خالدة صُنعت من الذهب الخالص، مرصّعة بأحجار كريمة نادرة بعضها لم يعد موجوداً على وجه الأرض!
القناع ليس مجرد تحفة بصرية، بل يحمل بين طياته نصوصاً من كتاب (الخروج في النهار)، المعروف بكتاب الموتى، تمنح الملك حماية أبدية في رحلته نحو الخلود.
الزائرون لن يشاهدوا مجرد معروضات، بل سيسافرون في رحلة إلى قلب الحضارة المصرية: الأثاث الجنائزي، الأواني الفاخرة، الحلي الذهبية، وكل قطعة تحكي قصة إبداع الصناع المصريين الذين سبقوا عصرهم بقرون.
ما وراء الأسطورة
أهمية مجموعة توت عنخ آمون لا تكمن فقط في قيمتها الذهبية أو جمالها الفني، بل في كونها المقبرة الوحيدة تقريباً التي وُجدت شبه مكتملة، دون أن تنهبها أيدي اللصوص. لذا، أتاح اكتشافها نافذة استثنائية للعلماء لفهم طقوس الدفن، المعتقدات الدينية، والحياة اليومية في مصر القديمة بدقة غير مسبوقة.
وعلى مدار قرن كامل، جابت هذه القطع أرجاء العالم في معارض ضخمة جذبت ملايين الزوار، من لندن إلى طوكيو. واليوم، تعود أخيراً إلى وطنها الأم لتستقر في أكبر متحف أثري على وجه الأرض.
يقول عالم الآثار وعضو مجلس أمناء المتحف المصري الكبير د. زاهي حواس لـ(المجلة العربية): (يعد هذا الافتتاح عيداً للمتاحف العالمية ولم ولن يحدث في تاريخ العالم مثل هذا الاهتمام لأنه مؤسسة ثقافية عالمية ويضم أهم آثار في العالم وأقدمها وسوف تقدم بأحدث طرق العرض المتحفي بطريقة ستبهر كل من يراها).
ويضيف: (الآثار تتضمن قطعاً وتماثيل من قبل التاريخ وحتى العصر الحديث ومتحفاً لمراكب الشمس، والزائر سوف يقضي يوماً حافلاً بين 12 قاعة تروي التاريخ المصري عبر العصور).
مسرح عالمي للحضارات
لكن المتحف المصري الكبير لا يقتصر على كنوز توت عنخ آمون. بين جنباته، يمكن للزائر أن يتتبع رحلة مصر منذ عصور ما قبل الأسرات حتى الحقبة اليونانية الرومانية. مقتنيات الملكة (حتب حرس)، مراكب الملك خوفو، آلاف القطع التي تعكس تطور المجتمع والملكية والمعتقدات على مدى آلاف السنين.
في المتحف الكبير، لا تسير بين قاعات عرض فحسب، بل تعيش تجربة متكاملة، تتنقل من قاعة إلى أخرى وكأنك تعبر فصول كتاب مفتوح على أبهى صفحاته.
نافذة على المستقبل
منذ أكتوبر 2024، فتح المتحف أبوابه بشكل تجريبي ليستقبل أربعة آلاف زائر يومياً، بهدف اختبار الجاهزية قبل الافتتاح الكبير. وكانت التجربة بمثابة (بروفة) ناجحة، مهدت لموعد الحدث التاريخي المرتقب.
والآن، يقف المتحف المصري الكبير كجسر بين الماضي والمستقبل. فهو ليس فقط احتفاءً بتاريخ الفراعنة، بل أيضاً رسالة معاصرة بأن مصر قادرة على أن تقدم للعالم من جديد ما يبهره ويدهشه.
ومع افتتاح أبواب المتحف المصري الكبير أمام الجمهور ستكون هناك فرصة لكل عاشق للحضارة أن يقف وجهاً لوجه أمام أعظم ما أبدعته البشرية قبل آلاف السنين، يستمتع بدقة ورعة التفاصيل التي نحتها الفنان المصري القديم، وليدرك أن التاريخ لا يموت، بل ينهض دائماً ليحكي قصته من جديد.
ذو صلة