مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

تفاوض الأبنية الإبداعية مــع التجارب الخاصة بلاغة الإعاقة البصرية

تحاول هذه السطور تقديم قراءة في كتاب (انحباس الضوء: بلاغة الإعاقة البصرية) للدكتور معجب العدواني، والصادر منذ شهور قليلة عن دار أدب السعودية. يؤكد الوعي الداخلي للكتاب أن فقد البصر تجربة شديدة الخصوصية، لكنه يتعرض للاهتمام وتطاله تأويلات شتى إذا أصبح الكفيف مبدعاً. فيخرج فقد البصر عن حيز الذاتية إذا ارتبط بالإبداع، وصارت تجربة الكفيف شأناً عاماً تتنازعها تخصصات شتى.
وعلى مدار تاريخ النظرية الأدبية فقد ذاعت مفاهيم مضطربة وجدلية وحمالة أوجه تحكم على الفن وصاحبه، لعل منها قدرته على المحاكاة، وقصر بعضهم مفهوم المحاكاة على المعنى الظلي، ووقفوا بحدود ما تراه العين، فوضعوا المبدعين المكفوفين في مرتبة متأخرة توهماً لقلة قدراتهم، فالكفيف لا يمكنه (وصف) الأمور، و(إصابة) المعنى، وطرح (وجهة نظر) متميزة، وظل الكثيرون متجمدين أمام هذه السطحية لا يثنيهم عنها تجاوز بعض المكفوفين لقدرات المبصرين. ربما يحتاج الأمر إلى مراجعة مفهوم المحاكاة ذاته، وقد صار -بهذا الفهم- من الثوابت المهزومة، ترسم للتراجع الفني واستنساخ الواقع دون إضافة ودون التنويع المتميز.
إن الإبداع ليس مقدمات تفضي إلى نتائج، وليس رصداً للتماثل الخارجي، وتعريف واقع معروف سلفاً، فنزيح الخيال وهو جوهر العملية الإبداعية برمتها.
لا يطلب الفن شهادة بجودة البصر، ولا يرتفع دور الفنان بقدر بصره الحاد، بل يتطور شعر الكثيرين في نهاية مسيرتهم مع ضعف بصرهم. إن الشعر بصيرة وليس بصراً. والمفاضلة بين المبصرين والمكفوفين من الشعراء نظرة بها كثير من (الرمد) و(العشى). الصورة الشعرية -مثلاً- ليست استعادة ما خزنته الذاكرة البصرية ثم ترجمته شعراً، وليست -من باب أولى- قدرة على محاكاة المرئي والتعبير عنه باللغة. إن الصورة تمنح النص -بتعبير بارت- وضع الإنتاجية وليس إعادة الإنتاج.
إن الاعتماد على البصر لتشكيل الصورة يجعلها صورة بصرية قد تخون الشاعر، ولعل كفيفاً مثل بشار تجاوز الشعراء، والأذن تعي الشعر قبل البصر أحياناً.
تحتاج نظريات الأدب إلى التعامل مع الفئات الخاصة بمقومات تراعي خصوصية العينة، فلا تسحب إجراءات عامة على عينة شديدة الخصوصية، ويرى بعض المنظرين أن الإعاقة هوية ثقافية إيجابية، تعزز هوية المعاق، أو مقولة ثقافية يمكن وضعها تحت موضوع هوية الأقلية، متخذاً مدخلاً معرفياً لدراسة نماذج مختلفة المشارب تجمع التجربة التشكيلية والرواية والسيرة الذاتية، فضلاً عن الشعر، لتكون العينة متسعة زمنياً ومكانياً، وشكلت ظاهرة ثقافية ومعرفية شديدة الأصالة والحضور، ليعطيها العدواني حظاً ما من الاهتمام.
وتميز مدخل الدراسة بسبب التعامل مع إبداع المكفوفين وفرادتهم الإبداعية، أو بتعبير المؤلف (معالجة توأمة اللغة والأدب الأبدية)، فالمنجز الفني أبنية تتعالى، وإذا كان علماء النفس والاجتماع والفلاسفة يدرسون طبيعة المبدعين فتقدَّم أنواعاً من الجوانب المعرفية لدعم التعرف على النص وخصوصيته. الإعاقة هوية ثقافية إيجابية، ومن ثم تعزز هوية المعاق، لأنها قد تصبح مواقع لتعزيز الإعاقة بوصفها هوية ثقافية إيجابية.
وعلى الرغم من وقوع الكتاب في عدة مباحث، يبدو أنها مكتوبة على فترات غير متقاربة فإن الخيط الأساسي يمكن القبض عليه بسهولة، كما أن الدكتور معجب العدواني -رغم قدراته البحثية الواضحة ومدخله الثقافي البيّن- لم يستنزف نفسه في مهادات نظرية شتى، وترك المساحة الأكبر لتطبيق الفكرة واختبار تنوعاتها، وإن بدت المقدمة بعيدة الصلة حين تعالج سؤالاً كبيراً حول (ما الأدب؟) فالحق أن تلك الصلة واضحة لأنه يقودنا بالضرورة إلى البحث في الاتصال والاختيار ونزع الألفة وعلاقات الفن بعلوم اللغة والاجتماع والنفس والفلسفة واللسانيات.
وإذا لم يحضر فقد البصر بشخصه -كما يقول القانونيون- برز بصفته، وإذا لم يكن المبدع كفيفاً فإن تيمة العمل الأساسية كانت فقد البصر، وهو ما يعالجه الكتاب حال تصديه لرواية (المحيط الإنجليزي) (صدرت 2018) للبحريني فريد رمضان، ويعلل اختياره بتناول وميض الضوء من الحجر الأحمر في أكثر من ثلاثين مرة في صفحاتها التي تقترب من أربعمئة وثلاثين حسب وصفه. وعلى الرغم من كونه معياراً يسهل انطباقه على أعمال عديدة تناولت الضوء والظلام، واستغلت تيمة الظل -مثلاً- فإنه يصرف جهداً كبيراً للبرهنة على أن مقولة إخفاء الضوء وظهوره تبدو عمود الرواية ومؤسس الرؤى فيها، فضلاً عن محور العميان الثلاثة، فالرواية تحاول الإجابة عن أسئلة عدة من خلال بصر الأعمى وعمى البصير، وقد عوّلت أعمال سردية قديمة وحديثة على تيمة العمى، وإحلال البصيرة محل البصر.
وعبر دخول مفاجئ، يحلل ظاهرة التشكيل والتركيز على اللون والعين في عرضه لطبيعة تعامله مع التجربة التشكيلية للفنانة السعودية نورة حمود، وكيف ركزت كثيراً على رسم العيون المفتوحة نوعاً من التعويض، ويستعين في فهمه لتجربة التشكيل عند نورة حمود بمكتسبات التيارات النسوية ونظرات الإعاقة ليصل إلى فهم التأويل، معتمداً أسطورة الكمال الجسدي. تركز نورة حمود على تحديق العين تعبيراً عن فشل النظرة العادية في استيعاب ما حدث، وربما كان التحديق تعبيراً عن وهم البصر وعمق البصيرة.
ويركز في الفصل المخصص للشاعر الكويتي صقر الشبيب الذي ترك تجربة ثرية رغم رحيله السريع (1896 - 1946) على اقتدائه بتجارب أبي العلاء المعري وبشار بن برد وغيرهما، واتخذ مدخلاً لدرس شعره ينحو تجاه اعتبار الوسيط هو الإعاقة، التي تسهم في تحويل الشعر إلى قالب سردي، ويقدم إحصاءات دالة، يقرأ نتائجه بوعي نقدي لم يتوقف فيه عند سطحها الظاهر ورصد أرقامها الصماء.
يركز الشاعر الشبيب على ضمير المتكلم لا يبرحه إلا نادراً فكان تيمة دالة على انغلاقه على ذاته لا يبرحها، فكان ضمير المتكلم سجناً جديداً. ويحلل مظان السرد في دواوين الكويتي صقر الشبيب ويرى فيها عوضاً عن انفصاله عن العالم الخارجي وكأنه يرث سجين معرة النعمان، وتظل الحوارات المقدمة مداراة لانعزال خارجي، وتمويها عن الفقد حتى يتحول المونولوج في أغلب الأحيان إلى ديالوج والعكس. ويلاحظ الكتاب استعادة الحكي في قصائد يحتل العمى فيها مركز الثقل، وتحل الذات الساردة على رأس عملية الاستعادة وتدخل متن الحكاية الشعرية.
وفي المبحث المخصص للشاعر اليمني عبدالله البردوني يلتفت إلى دور الخاتمة في شعر البردوني، وكيف كان حضور الخاتمة المفتوحة سبيلاً لفتح الدلالة على مستوى لا نهائي، كما يدرس كيف كان الشك أداة الخاتمة المفتوحة لإيجاد شعرية مختلفة تدل على عمق البصيرة وإن كان المشروع الكبير للبردوني المنشور في مجلدين كبيرين يصعب حصره، واستقصاؤه في مبحث صغير، فبدا الأمر مجرد إشارات عابرة، بعضها ضعيف الصلة بالمدخل الأساسي للكتاب على ما فيه من جدة وإبهار.
وإذا كان الشعر قادراً على تحويل العمى نوراً إبداعياً فكان من المفترض البحث في التعامل مع الجمال ملموساً لا مرئياً، فيدور تساؤل (وإن كان غائباً داخل الكتاب) حول الحسية لدى البردوني في تعامله مع المرأة أو تطرفه في هجائه المقذع أو الإشارة للكثافة اللغوية واستخدام اللغة على نحو شفاف، أو اضطراد نزعة التشاؤم لديه خلفاً لشيخ المعرة، ولكنه تشاؤم خفيف بدا رد فعل لحبيب لا يلقى من محبوبته وصلاً وحظوة، إن كطفل يريد قطعة أكبر من الحلوى.
تحتاج مقولات النقد الثقافي، وغيره، إلى اختبارها على مجالات متنوعة موزعة بين الفن التشكيلي والرواية والنقد والشعر، ومقولات شتى منها البحث في قدرات الفئات الخاصة، وهما محوران برع الكاتب فيهما.
ذو صلة