مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

كيف نصنع محتوى تراثياً يُلهم الجيل الجديد؟

في كل موقع تراثي نزوره، هناك شعور خفي بأن شيئاً ما غائب.
المكان حاضر، لكن القصة ليست كذلك.
في تلك اللحظة، خطر في بالي سؤال بسيط لكنه جوهري:
هل نروي التراث كما يجب؟ أم نختزله في تواريخ جافة ومسميات جامدة؟
بين الأثر والحكاية فجوة لا تُرى
غالباً ما يختزل الحديث عن التراث في لغة متحفية: هذا الموقع يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، وتلك القطعة فخارية نبطية، وهذا البناء كان معبداً. لكن، هل نحن حقاً نتحدث عن التراث؟ أم عن بقاياه؟
التراث، بمعناه العميق، ليس ما نراه في الصور، بل ما نشعر به حين نقترب منه.
هو الحكاية التي تخرج من قلب الحجر، لا من قاعة المحاضرة.
المشكلة أن كثيراً من المحتوى التراثي يُقدَّم بنبرة توثيقية باردة، تشبه تقريراً إدارياً أكثر مما تشبه حكاية. وهذا بالضبط ما يجعل الجيل الجديد ينصرف عنه لا لأنه لا يهتم، بل لأنه لا يجد فيه نفسه.
من الجمهور المتلقي إلى الجيل الصانع
جيل اليوم لا ينتظر أن نروي له القصة، بل يريد أن يكون جزءاً منها.
جيل اليوم لا يستهلكون المحتوى، بل يصنعونه.
ينتجون بودكاست، يسردون تجاربهم في فيديوهات قصيرة، ويخلقون عوالم رقمية فيها من الخيال أكثر مما في كتب التاريخ.
ماذا لو استخدمنا هذه اللغة لصالح التراث؟
ماذا لو قدمنا (مدائن صالح) من خلال قصة فتاة نبطية تكتب مذكراتها؟
أو صورنا (قلعة تاروت) من وجهة نظر صبي صغير يحلم أن يكون بحّاراً؟
عندها، لا يعود الموقع مجرد مكان، بل يصبح ذاكرة حية، قابلة للمشاركة، وقادرة على الإلهام.
ليست كل حقيقة ملهمة
من السهل أن نقول إن هذا النقش عمره ألفا عام.
لكن من الصعب أن نخلق علاقة بينه وبين مراهق يعيش اليوم في مدينة مزدحمة.
هنا تأتي أهمية الحكاية.
لأن الناس لا تتذكر الأرقام، بل تتذكر المشاعر.
التراث كقوة ناعمة
عندما ننظر إلى التراث باعتباره إرثاً محلياً فقط، نفقد نصف قيمته.
الوجه الآخر منه هو كونه مشتركاً إنسانياً.
الفن، الإبداع، الابتكار… كلها تجارب عاشها الإنسان منذ فجر التاريخ.
حين نظهر، في محتوى تراثي، أن الإنسان النبطي أو المعيني أو غيرهم، كان يحلم ويبتكر ويشعر كما نفعل نحن اليوم، فإننا لا نعرف الناس بتاريخهم فقط، بل نعيد إليهم إنسانيتهم.
وهنا، يتحول المحتوى التراثي من معلومة إلى قوة ناعمة.
وسيلة للفهم، والحوار، وربما للفخر أيضاً.
في الختام
نحن لا نصنع محتوى تراثياً فقط لكي نُعلم، بل لكي نُلهم.
ولن نُلهم أحداً إذا بقينا نروي الماضي بلغة الأمس.
علينا أن نخاطب خيال هذا الجيل، بلغته، بإيقاعه، وبأدواته.
لأن التراث، حين يروى بمحبة، يتحول من صمت إلى صوت، ومن ماضٍ إلى معنى.
ذو صلة