مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

دول النطاق الآسيوي والعلاقات العربية

يشهد النظام الدولي الراهن تحولات هيكلية حقيقية جراء ما يجري في الحرب الأوكرانية الروسية، وعدم وضوح المقاربات الدولية والإقليمية الحالية، والتي ما تزال تتحدث عن تمنيات وطموحات، أكثر منها سياسات أو إستراتيجيات قابلة للتعامل أو الطرح الحقيقي في ظل حالة من السيولة السياسية، وعدم الاستقرار في بنية النظام الدولي، وتداخل الأهداف مع الإستراتيجيات للدول الكبرى، وسعي كل الأطراف الدولية لتأكيد حضورها السياسي، سواء بتبني سياسات مؤقتة أو مرحلية أو دائمة، أو من خلال بناء شراكات سياسية أو محاور لم تدخل أغلبها حيز التنفيذ، وإن كانت ماضية في مسارها لحين اتضاح المشهد الدولي الذي ما تزال الولايات المتحدة تمسك بأطرافه، وتعمل على إبقائه، في ظل منافسات كبيرة من قبل الصين اقتصادياً وروسيا عسكرياً، وفي ظل مناخ جديد يتشكل في حلف الناتو ودول الاتحاد الأوروبي، إضافة للتحالفات التقليدية التي ماتزال قائمة وماضية في مسارها، كما هو واضح في القارة الآسيوية

مسارات منضبطة
في ظل ما يجري فإن مسارات واتجاهات الأحداث تتجه بقوة إلى المنطقة الآسيوية باعتبارها مسرحاً حقيقياً لما يجري في المنظومة العالمية والإقليمية. وأطراف هذه المنطقة ستساهم في تشكيل ما سيجري في بنية النظام الدولي سواء روسيا أو الصين والهند والقوى التابعة مثل كوريا الشمالية وتايوان واليابان.. وغيرها. ومن ثم فإن الحضور الآسيوي تحديداً هو ما سيرسم ملامح ما سيتشكل لجملة من الاعتبارات الرئيسة، خصوصاً أن بعض دول هذا الإقليم الآسيوي تمتلك النووي، ولديها ارتباطات صعبة ومعقدة للغاية من الصعب تفكيكها أو التعامل معها من جانب واحد، وبخاصة الصين التي لا تزال القوة المركزية الاقتصادية في العالم، وتكافح الولايات المتحدة للحاق بها، بل حددت الإستراتيجية الأمريكية الصادرة في أغسطس من العام الماضي أنها الخصم والعدو الذي يجب التعامل معه، والاشتباك مع ما يطرحه اقتصادياً. وفي ظل صراع حقيقي تخوضه الصين في مواجهة الولايات المتحدة وتعمل على مواجهته؛ لا تزال الولايات المتحدة تتبنى إستراتيجية متعددة المجالات لكبح جماح القطب الصيني.

تحركات آسيوية
إن سعي الدول الآسيوية، وعلى رأسها قوى مركزية الصين والهند واليابان، إضافة للقدرات الكبيرة التي تمتلكها دول مثل فيتنام وماليزيا وتايلاند وسنغافورة في مجالات عدة، خصوصاً في مجال التكنولوجيا؛ يؤكد أن المستقبل الآسيوي مرتبط بعدة عناصر مهمة:
الأول: أن هذه الدول تعمل في نطاقات متعددة، وبتركيز على مجالات متعددة، وليس على مجال واحد، وهو ما حجز لها دوراً مهماً في أسواق التكنولوجيا في مجالاتها المتعددة، وفي مجالات خصبة وثرية ومتعددة وفقاً لتقارير التنمية البشرية والتقارير الدولية الوازنة.
الثاني: أن هناك دولاً قائدة، لاعتبارات القدرات، وحسابات القوة الشاملة التي تمتلكها، مثل: الصين وروسيا واليابان، وأنها توظف هذه القدرات لتحقيق أهدافها الاقتصادية والعسكرية، وهو ما برز في العملية العسكرية لروسيا في أوكرانيا، وآليات التعامل الصيني مع النهج الأمريكي الغربي في ملف تايوان على سبيل المثال.
الثالث: سعي هذه الأطراف الآسيوية لإعادة ترتيب أولوياتها، مثلما يجري في حالة كوريا الشمالية، واستمرار النهج العسكري في تأكيد حضورها السياسي والإستراتيجي، وهو ما برز في التعامل مع ما يجري في النطاق الآسيوي، إذ استخدمت فيه كوريا الشمالية نهجاً عسكرياً في نقل رسائلها، كما بدأت دول مثل اليابان تعلي من توجهاتها السياسية، بالتركيز على قدراتها العسكرية بدليل زيادة الإنفاق على التسليح والإنفاق العسكري.

مقاربة واقعية
تنظر الدول الآسيوية وعلى رأسها الصين إلى النطاق العربي من عدة زوايا مهمة، فهي دول مهمة لتحركات القوى الآسيوية في المقام الأول، وذلك في الفترة المقبلة، بهدف حشد وتكتيل أكبر عدد من الدول في إطار ما يجري إقليمياً ودولياً في الفترة المقبلة، خصوصاً أن الدول العربية تتحرك أيضاً في هذا الإطار سعياً لتنويع حركاتها الكبرى، ومحاولة إحداث أكبر قدر من التوازن في مواقفها باستثمار حقيقي لما يجري، ولهذا كانت القمة الصينية العربية التي عقدت في السعودية، وأكدت على تحرك عربي مهم قادته السعودية عبر تخطيط لافت لإحداث هذا التوازن، إضافة إلى سعي الصين للاستثمار في مسارات حركتها الإقليمية والدولية، ترجمةً لمقررات ومخرجات اجتماع الحزب الشيوعي مؤخراً، والذي أعاد انتخاب الرئيس شي بين مرة أخرى.
والواقع أن هذه القمة سيكون لها تأثيراتها الحقيقية على التحرك العربي في بناء منظومة علاقات عربية آسيوية جديدة، وبخاصة أن التحرك العربي الخليجي مضى في إطار موازٍ مع الجانب الروسي، وهو ما عكسته مجمل الحركة العربية والاتصالات واللقاءات التي تمت على مستوى السعودية والإمارات ومصر، وهو ما نقل رسالة للولايات المتحدة بإمكانية أن تراجع الدول العربية مواقفها في ظل سياسة أكثر واقعية سياسية، وانفتاحاً على مختلف القوى الرئيسة المهمة في العالم، وبهدف ضبط مسارات التحركات العربية تجاه ما يجري.
ولعل القرارات التي تبنتها السعودية في أوبك بلس 2 تؤكد على هذا التوجه، وأن الدول العربية قادرة على مراجعة سياستها وتحقيق مكاسب كبرى حقيقية في ظل ما يجري، خصوصاً مع الدور الكبير الذي لعبته بعض الدول العربية في محاولة حلحلة المشهد السياسي والاقتصادي الناتج عن استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وما خلفته من أزمات دولية، كإمدادات الطاقة والغذاء، وتقديم المساعدات للدول النامية.

ضوابط منضبطة
الواضح أن هناك حاجة متبادلة بين الدول العربية ونظرائها من آسيا لإعادة ترتيب مواقفهما الحالية لجملة من الاعتبارات:
الأول: أن النطاقين العربي والآسيوي تربطهما علاقات تاريخية حقيقية وأواصر من السياسات المشتركة، ولا توجد رواسب سلبية في مسارات العلاقات مقارنة بالدول الغربية التي احتلت الدول العربية، وتوجد أبعاد متعددة في تفسير العلاقات التاريخية بين الجانبين، وهو ما لا يوجد في نطاق العلاقات العربية الغربية.
الثاني: أن دولاً مثل الصين والهند واليابان تربطها علاقات متميزة بالنطاق العربي، وقد اتضح ذلك مما تقدمه الدول العربية خصوصاً الخليجية من مزايا اقتصادية متعددة في التعامل، وقد برز مؤخراً في التحركات الصينية والروسية تجاه دول الخليج على وجه الخصوص، وتحرك روسيا للحصول على دعم دبلوماسي من بعض الدول العربية، وأبرزته بوضوح مسارات العلاقات السعودية الروسية من جانب والمصرية الروسية من جانب، وهو ما يؤكد على وجود قناعة مشتركة عربية آسيوية في بناء شراكات مهمة وجديدة اعتماداً على وجود علاقات تاريخية حقيقية يمكن البناء عليها، وتطويرها في ظل ما يجري سياسياً وإستراتيجياً في بنية النظام الدولي الراهن، والذي سيأخذ مزيداً من الوقت للوصول إلى حالة الاستقرار، مع التوقع بأن الوصول إلى هذا الهدف سيأخذ مزيداً من الوقت.
الثالث: في كل ما يجري فإن الجهود السعودية في نطاقها الخليجي والعربي تلعب دوراً حقيقياً ورائداً، ليس فقط في الانفتاح على المشهد الآسيوي، وإنما العمل على بناء مواقف عربية موجهة لتطوير العلاقات مع دول النطاقات الآسيوية، والتحرك نحو تحقيق مقاربة واقعية تفيد الطرفين في ظل ما يجري ويرتبط بالفعل بتحركات مقابلة من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، والتي ما تزال تتشكك فيما يجري ويرتبط بنمط وتوجه العلاقات مع الولايات المتحدة، وفي ظل ما يجري على الجانب الروسي، ومسعاه لإعادة تشكيل نمط للعلاقات مع الدول الحليفة، من خلال إستراتيجية تجميعية لأكبر عدد من الدول عبر آليات موجودة ومنها منظمة الأمن الجماعي، والتي تعمل روسيا على إعادة تطويرها والبناء عليها.
الرابع: لهذا تتحرك الدول القائدة في النطاق العربي وعلى رأسها السعودية لبناء قوة مركزية حقيقية نحو تطوير وتعزيز الخيارات العربية العربية في مواجهة ما يجري، والعمل على بناء مواقف راسخة تجاه المشهد الآسيوي واحتمالات تحوله في الفترة المقبلة لتحقيق أهدافه باعتباره قوة اقتصادية هائلة تمثلها الصين في المقام الأول مع الوضع في الاعتبار ما تملكه الدول الآسيوية، وبما يمكن أن يساهم في بناء إستراتيجيات مشتركة سواء في المجال السياسي أو الإستراتيجي، ولا شك أن الدعم العربي الكبير والسعودي على وجه الخصوص سيعمل في تعزيز وتنمية أية تحركات آسيوية ليس في مجال الشراكات والتحالفات الاقتصادية مثل شنغهاي ومجموعة الآسيان فقط بل في مجال حل وتحليل الصراعات والنزاعات الجارية في العالم، وتشتبك في بعض تفاصيلها دول النطاق الآسيوي مثل الصين والهند وكوريا الشمالية وغيرها.
ما سيجري في بنية المنظومة الدولية سيتطلب بالفعل دوراً عربياً حقيقياً تقوده السعودية نحو المنطقة الآسيوية، وبما يعزز من الحضور الثنائي في النظام الدولي بكل تحولاته الكبرى والتي سيكون لها ارتداداتها على أقاليم العالم المختلفة، ولاشك أن القدرات وحسابات القوة الشاملة للسعودية في نطاقها الإقليمي والدولي توفر فرصة حقيقية ببناء تحالفات داعمة للنطاق الآسيوي الراهن، واحتمالات تطوره في المديين المتوسط والطويل الأجل، خصوصاً أن أي مستقبل للنطاق الآسيوي بدوله ووحداته السياسية سيكون في حاجة حقيقية لدعم من الدول العربية استثماراً لنمط العلاقات المشتركة وطبيعتها في المجالات السياسية والاقتصادية المختلفة.

ذو صلة