مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

عوض

على الرصيف اكتظ الجميع بجوار بعضهم البعض، كل منهم يرتدي جلباباً قديماً، ويشمر عن ساعديه، حاملاً مرزبة ومطرقة وأزميلاً، يلفون حول رؤوسهم الكوفيات الصوف لتحميهم من لفحة الشمس الحارقة، الجميع عيونهم مصوبة تجاه المارة تستعطفهم كي يقترب أحدهم طالباً منهم تكسير سور، أو هدم جدار، أو حمل شيء لا يقوى صاحبه على حمله، مقابل بعض جنيهات تكفي بالكاد سد رمق جوعهم هم وصغارهم.
كانت قلوبهم ترفرف فرحة مع كل شخص يلقي عليهم السلام، لكن سرعان ما يمر كغيره بلا جديد، ملّوا من الانتظار، لكن ظل دعاؤهم موصولاً بالسماء أن يحنو عليهم الرازق كما يحنو على الطير الذي يغدو خماصاً ويعود بطاناً.
جلس كغيره منتظراً، لكنه لم يكن يتتبع المارة مثلهم، فهو يحلم بفرصةٍ أكبر، فرصة تمنحه خمسة آلاف جنيه تجعل السعادة ترتسم على وجه ابنته، والتي لم يتبق إلا أيام قليلة على زواجها، ذلك الزواج الذي يخشى ألا يكتمل لأنه لم يستطع أن يحضر باقي متطلبات عرسها.
كل الطرق أغلقتْ في وجهه، لا أحد يريد أن يقرضه، تذكر عتاب زوجته المستمر له: «أنت السبب، قلت لك أدخلها ثانوي فني، فنحن لا نحتمل مصاريف ثانوي عام وجامعة، ألم نكن أولى بمصاريف الدروس والكتب في تجهيزها بدلاً من أن يفتضح أمرنا أمام خلق الله؟».
طالما تمنى لو أودى الموت به ليريحه من ذلك العذاب الذي يحيطه، لكنه لم ينس أبداً في دعائه بأن يموت بلا مرض، ليس خوفاً منه، فمن اعتاد على ألم الجوع لا يخاف ألم المرض، فما كان يتمنى المرض إلا لأنه لا يقوى على تحمل مصاريف علاجه ليس إلا، كان يتمنى الموت فجأة كي لا يرهق أسرته بدينٍ جديد بعد موته.
استفاق فجأة على سيارة نصف نقل كبيرة تقف أمامهم، ينزل منها رجل يعرفونه جيداً، يأتي دائماً في مثل هذا الوقت بعدما يكونوا قد ملوا من إيجاد أي عمل، يأتي مستغلاً يأسهم ليساومهم على يومياتهم، اعتاد أن يرفضوا عرضه في البداية لكنه كان يحسم الأمر وهو يفتح باب السيارة ويقول: «أنا في انتظاركم في السيارة، خمس دقائق وسأتحرك لمقر العمل».
لم يمر أكثر من دقيقتين وكانت السيارة اكتظت بأجسادهم العفية، ولم يمر أكثر من خمس دقائق من تحرك السيارة بهم على الطريق السريع إلا وكانت أجسادهم ملقاة على الأرض تغطيها جرائد سيتصدر عناوين صفحاتها الأولى غداً (رئيس الوزراء يقرر صرف خمسة آلاف جنيه لأسرة كل متوفى من ضحايا حادث الطريق السريع).

ذو صلة