المسرح شبه مظلم إلا من بقعة ضوء وحيدة تسقط متوسطة على خشبته حيث يقف عاشق للمسرح.
قدم عرضاً مسرحياً (مونودراما)، بعد أن دفعه عشقه لأن يكون هو الكاتب والمخرج ومن يؤديه أيضاً تحت عنوان (وله)
بدأ العرض بجسد يتدفق الشغف في عروقه، بجسد يحتضن المشاعر ونقيضها، يحمل الألم والأمل، يحمل الخيبة والنهوض، ويحمل الحلم..
قدم عرضه على مرأى جمهور كان قد غلبه اندهاش كاد يكتم الأنفاس، ولكن، سرعان ما تلاشى كل شيء!
وهنت تغريدات الهمس تدريجياً، الجمهور في صمت قاتل وكذلك المكان..!
لم يبق أمام العاشق سوى كراسي فارغة تمتد نحو الأفق، وكأن المسرح ابتلع كل شيء.
توقف لحظةً، ساد الظلام على المسرح، تمالك نفسه، التفت نحو الجدران بحركة مسرحية، وكأنه يخاطب شخصيات غير مرئية، ثم عاد يواجه الجمهور مجدداً..
فجأةً، وجد المسرح قد تغير، يا إلهي! لم يجد نفسه مسرح اللواء الأخضر، مسرح مدينته إب، إنما وجد نفسه وسط المسرح البلدي في تونس!
المسرح مكتظ بالعيون والأضواء التي يزداد سطوعها في اللحظة تلو الأخرى، لا يدري كيف حدث هذا؟!
ومع ذلك تابع عرضه وكأن شيئاً لم يكن.
كلمات النص أصبحت أكثر عمقاً، مشاعره أكثر غزارة، كل شيء فيه بلغ ذروته، حتى تعبيره وصل إلى حد الجنون المسرحي الإبداعي.
ثانية، استدار بحركة خاطفة، شعر برعشة باردة في الهواء، الأضواء قل توهجها وكأن البرد قد أصابها هي الأخرى، وبين غمضة عين وانتباهتها وجد نفسه واقفاً على خشبة المسرح الفرنسي!
ما كان ليصدق ما يجري لولا هتاف الجمهور الفرنسي الذي عج بالمكان العريق.
تنفس رائحة الفن وابتسم..
تابع العرض دون أن يسمح للدهشة بالسيطرة عليه..
المزيج بين النص العربي وروح المكان الأوروبي أضفى بعداً جديداً على الأداء.. الجمهور متفاعل، التصفيق وإن بدأ خجولاً لكنه الآن انفجر كالعاصفة..
انحنى الممثل محيياً الجمهور، وما إن رفع رأسه وجد نفسه في أحد مسارح المملكة العربية السعودية.
أصوات التصفيق ما زالت تتردد، الجمهور مختلف هنا، شعر بحرارة المكان وروح الحماس التي تغمر الحاضرين. سكنته السعادة، انحنى مرة أخرى انحناءً سبقته ابتسامة واسعة مليئة بالدهشة والامتنان.
تدحرجت دمعة من عينيه، ليست دمعة حزن، هي دمعة انتصار، دمعة الوصول لتحقيق الحلم..
إنه المسرح، تجاوز الحدود، فحدود الزمان والمكان لم يعودا قيداً..
الفن وحده كان الحقيقة المطلقة.
وبينما كان الستار يسدل ببطء، همس لنفسه: (المسرح، حلم طاهر لا يعرف الحدود)
علا صوت الابتهاج وكذلك تصفيق صاخب كان هذه المرة حقيقياً، وفي كل البقاع احتفى الجمهور بروح المسرح الخالدة.