تحيي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) منذ العام 2012 في اليوم الثامن عشر من كانون الأول/ ديسمبر اليوم العالمي للغة العربية، بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1973. وقد احتفلت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) للمرة الأولى باليوم العالمي للغة العربية في العام 2012، وكرست هذا التاريخ السنوي لإبراز إرث اللغة العربية ومساهمتها العظيمة في الحضارة الإنسانية.
ورغم أن اللغة العربية غنية بمفرداتها، وفيها أكثر من اثني عشر مليون كلمة، ويتحدث بها ما ينيف عن أربعمئة مليون شخص، ويستخدمها أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين في العالم لأداء شعائرهم الدينية؛ إلا أنها لغة سهلة وتتسم بالعذوبة والسلاسة.
وتحتل اللغة العربية واجهة أساسية في الجانب الثقافي والتراثي لبلاد الحرمين الشريفين، وفق ما عبّر عنه خادم الحرمين الشريفين من خلال أقواله التي عكست اعتزازه باللغة العربية لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة، واللغة التي تعبّر عن تراثنا العربي الأصيل:
«لقد كرّم اللهُ العربَ بأن أنزلَ القرآنَ الكريمَ بلغتهم، فشرّف هذه اللغة تشريفاً ما بعده تشريف، وزاد هذه اللغة قوة وحضوراً. يقول تعالى: (إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون)، ويقول سبحانه: (إنا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون)، وهو التكريم الكبير للعرب واللغة العربية، حيث نزل كتابُ الله ووحيه الشريف بهذه اللغة العظيمة… لقد حفظ اللهُ اللغة العربية بحفظه للقرآن الكريم، لكنّ محافظة كلٍّ منا على هذه اللغة إسهامٌ في الحفاظ على الهوية، وهو ما يجدر بنا جميعاً فعله، وفق الله الجميع لما فيه الخير».
وقوله: «بلادنا المملكة العربية السعودية دولة عربية أصيلة، جعلت اللغة العربية أساساً لأنظمتها جميعاً، وهي تؤسس تعليمها على هذه اللغة الشريفة، وتدعم حضورها في مختلف المجالات، وقد تأسست الكليات والأقسام والمعاهد وكراسي البحث في داخل المملكة وخارجها لدعم اللغة العربية وتعليمها وتعلّمها».
وقوله: «إنّ لغتنا العربية لغة حضارة وثقافة، وقبل ذلك لغة الدين القويم، ومن هنا فإنها لغة عالمية كبرى شملت المعتقدات والثقافات والحضارات، ودخلت في مختلف المجتمعات العالمية، وهي مثال اللغة الحيّة التي تؤثر وتتأثر بغيرها من اللغات».
وقوله: يجب على المواطن، وبخاصة الشباب والشابات، أن ينهلوا من لغتهم العربية، ليتمكنوا من خدمة دينهم ووطنهم أكمل الخدمة، وعليهم أن يحذروا من الشوائب والمفردات التي لا تتفق مع اللغة العربية أو تُؤثر سلباً، فلغتنا العربية ذات معجم ثري، ومفردات خلاقة جميلة، تستطيع التعبير بوضوح عن مكنونات النفس بمختلف الصور، وتحوي كوامن الإبداع، وهي سهلة لكل من تمكن منها، ثرية غاية الثراء في الكلمات والمعاني والمفردات.
وقد ارتبطت اللغةُ العربية بالجمال، فمنذ أن أنشد شاعرُ المعلقاتِ الجاهلي امرؤ القيس أولَ بيتٍ في معلقته التي يقول في مطلعها:
قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ
بِسِقْطِ اللِّوى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
واللغةُ العربيةُ تسير بثباتٍ ورقّةٍ نحو الجمال والعذوبة، فقد وصف نبيُّنا الكريم -عليهِ الصلاةُ والسلام- بيانَها بالسحر الذي يخلب الألباب، ويستميل الأفئدة، فقال فيما أُثِرَ عنه: (إنّ من البيان لسحراً)، فهي لغة السحر والجمال والخيال.
وكان العرب شديدي الاعتزاز بلغتهم الجميلة، حريصين كلّ الحرص على تقديرها ووضعها في أكرم منزلة وأحسن صورة، ويتجلى هذا الحرص والاعتزاز في عنايتهم بجودة الإلقاء وحسن الحديث، وفي نفورهم من كل عيب يشوب النطق أو يشوه التعبير.
ومن مقومات جمال العربية الترادف، وهو دلالة عدد من الألفاظ على معنى واحد بدرجات ومستويات مختلفة. وقد ألّف كبار علماء العربية مصنفاتٍ في هذا الجانب، من أشهرها كتاب: الألفاظ المترادفة للرماني، الذي جمع فيه آلاف الألفاظ المترادفة، ومن الأمثلة عليها: الغم، الغمّة، الشجن، الترح، الأسى، الوجد، الجزع، الكآبة، الأسف، اللهفة، الحسرة، الجوى. ولكل لفظة من هذه الألفاظ مستوى معين، إلا أنها تتفق في المعنى العام وهو الحزن.
يقول فاروق شوشة، صاحب برنامج لغتنا الجميلة الذي ظل يُذاع على مدى ست سنوات بدءاً من العام 1967: «لغتنا الجميلة ظلت عبر القرون الطويلة صامدة نابضة بفضل انفتاحها المستمر على الحضارات والثقافات واتجاهها الدائم إلى المستقبل، وأنها كانت تفقد حيويتها ونبضها عندما يتوقف انفتاح أصحابها على الجديد الذي تزخر به حياتهم وينغلقون على أنفسهم مضغاً واجتراراً، وعندما يصبح الماضي هو مثلهم الأعلى المقدّس، تتجه إليه رؤوسهم دون أن تتجه إلى حيث الهدف الطبيعي والغاية الأصيلة -المستقبل-».
وإذا أردنا أن نتحدث عن مدى قوة ورصانة اللغة العربية، يكفي أن نعود إلى كتاب شمس العرب تسطع على الغرب للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه، لنعرف الكمّ الكبير من المفردات المتداولة في اللغات الأوروبية ذات الأصل العربي.
ويتجلّى رونق العربية حين نعلم أن دلالات اللفظ الواحد تتعدد بحسب السياقات المتضمنة له، وقد مثّل علماءُ العربية بعدة ألفاظ، منها لفظ: ضَرَبَ، فضرب زيدٌ عمراً، أي عاقبه، وضرب الله مثلاً، أي ذكر، وضرب له قُبّة، أي أقام، وضرب العملة، أي صاغها، وضرب له موعداً، أي حدّد، وضرب في الأرض، أي سعى. وهذه سمةٌ تندر في اللغات، وقد اكتسبتها اللغة العربية لما لها من العمر المديد الذي استطاعت به أن تطوّر أدواتها وتنسجم مع المتغيرات المكانية والزمانية.
ويُعتبر مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، الذي تأسس في الأول من سبتمبر 2020، من أهم مظاهر اهتمام المملكة باللغة العربية، ويُعتبر تأسيسه منطلقاً لتعزيز دور المملكة إقليمياً ودولياً، وإبراز قيمتها المعبرة عن العمق اللغوي للثقافات العربية والإسلامية، وليكون مرجعية علمية على المستوى الوطني فيما يتعلق باللغة العربية وعلومها، وليُسهم بشكل مباشر في تحقيق أهداف برنامج تنمية القدرات البشرية، أحد برامج تحقيق رؤية المملكة 2030.