السابعة صباحاً، أنتشل -بمشقة- جثتي من تابوت ليل يخشى قطرات النهار. الثامنة صباحاً، أرتشف موسيقى عينيك. التاسعة صباحاً، أتفقد حزنك الموؤود في عيون العابرات. العاشرة صباحاً سأوبخ الأقدار، التي لم تجعل خطواتنا تتصادى من قبل. الحادية عشرة صباحاً، سيفوتني ربيع نظرتك، وأنا أعد -عبثاً- سنوات عمر الشيطان، وأتساءل: (متى سيموت؟).
الثانية عشرة زوالاً، أمضي كشبح أفسدت حياته الكتب، يفكر في القصائد التي ينبغي أن يقرأها، بينما أهمل الروايات لأنني لا أملك وقتاً كافياً لأقرأها، وتنهال على رأسي مطارق قصص تطارد أيامي كلعنة، ألمح طيفك، وأنا مثقل بالنصائح، أولاها أن أتغير. أن أقرأ بحب، أن أستمتع بالكتب. أن أبتسم ببلاهة للأقنعة، وأن أتفادى التفكير في ضمير الغائب.
هل يمكن أن أصير شخصاً لزجاً، حتى أعيش عمراً أطول؟!
***
كما يجدر برجل يعيش أكثر من حياة، بالقراءة والكتابة، يمضي مثقلاً بالخسائر والخذلان، ينهش الندم روحه على عمر ضاع هباء. في طريقه إلى المقهى، الذي يقضي فيه سحابة يومه، يسمع ولا يسمع ما يتناثر حوله، ويشتم كل شيء ولا شيء، بعدما سرق منه عمره. يدرك أنه يحتاج إلى أن يستعيد صداقة الليل، لعله يجد الخطوة الأولى في طريق رواية جديدة، قد تنتشله من هذا الضياع بعد كتابتها، ولكن هذه الحياة تصر على أن تفرض عليه أن يعيش دور الحمار في تمثيليتها السمجة، وتطالبه - أيضاً - بأن يصير كائناً لزجاً، تافهاً، بدل أن يبقى ذلك الشخص المتجهم، المثخن كآبة.
تسديدة أولى
هذا الأحد، الناس سعداء حد الانتشاء بانتصار كروي، بينما هو يبدو وكأن الأمر لا يعنيه بتاتاً، كأنه جاء من زمن موغل في القدم، لم تخترع فيه الحدود بعد.
قال لصاحب المقهى إنه لا يستسيغ هذا الفرح الزائف: (كرة القدم أفيون عالمي لتخدير الشعوب.. لماذا لا يتظاهرون ضد الغلاء؟!). تذكر حركة أصابع الرجل الدائرية قرب رأسه، فتصرف كمجنون حقيقي، لم يدر هل سيعاتب القدر أم الشيطان: لو كان توقيت المباراة يوم الاثنين بدل الأحد، سيستغل السكينة التي ستخيم على المدينة، وهذا سبب إضافي لكي يحقد على يوم الأحد، الذي يعمق هاوية وحدته، وفي طريقه إلى بيته، حلم بأنه يطرق باباً يفتح في الأحلام فقط. استقبلته زوجته متجهمة: (الغداء لم يجهز بعد)، ثم أعلنت تبرمها من أشغال البيت ورعاية الأبناء في تذمر فصيح، لأنه يلقي كل شيء على عاتقها. لم يرد كان يحلم بدهشة عقدت لسان المرأة، لم يقل أي شيء، اكتفى بصمت بليغ، يليق بالأحلام الفردوسية.
صفعته جملة الرجل، وغادر الحلم
- فليذهب إلى الجحيم كل الكتاب والمفكرين..
قالها صاحب المقهى، وهو يدافع عن رياضة كرة القدم. لم يتمالك أعصابه، أحس بأنه يحتاج إلى خلوة حقيقية للقراءة والكتابة، بدل معاشرة الغوغاء.
يجرجر قدميه في تثاقل، وبين جوانحه بركان يغلي، ولكي يصب جام غضبه على حياة تمعن في إذلاله، ركل قارورة بقوة، غير عابئ بالشظايا التي سترتد إليه..
ضربة جزاء
لمح قارورة خضراء مرمية على الرصيف، تناهى إلى مسامعه حديث شابين بالقرب منه:
- هذا الوغد، يشرب كل سبت، ويضع القنينة أمام رصيف بيتنا. يظن أنه - بهذه الطريقة الغبية - يبعد عن نفسه الشبهات.
بغيظ زأر في ذلك الحلم، ركل القارورة الخضراء بطريقة سينمائية.
في الأحلام لا رنين للكلمات، لكن صدى منغماً سيوقظه من حلمه: (أنت شيطان.. أنت شيط.. أنت ش..).
يرفع رأسه، ينظر إلى الشظايا، يتخيلها فتات قلبه، ينهمر كالمطر، بعدما أمسك القارورة بيده، قام بحركات رياضية استعراضية رشيقة، ثم ركلها بقوة، وفي أقل من ثانية، يحلم أنه يطرق باب بيته، يبتسم، حين يلمح وجهاً صبوحاً هارباً من الجنة.
نظرت إليه صاحبة ذلك الوجه في ريبة، تذكر أنه يعيش وحده، ودوماً يضع قارورة خضراء قبالة بيتها، يخطر في باله أن يكتب قصة قصيرة سيموت فيها في يوم الأحد، سيكتب عن الموت، وكأن موته لا يعنيه وإنما يهم شخصاً آخر، ولن يضطر الجيران إلى تحطيم باب الحجرة، بعد أن تفوح رائحة جثة رجل وحيد، وسيسمي تلك القصة: (متى سيموت الشيطان؟).
***
محاولة تسلل
يحلم ذلك الميت بأنه سيموت يوم الاثنين، بينما في الواقع فهو قد مات يوم الأحد، ولم ينتبه إلى غيابه أي أحد في ذلك الأحد. في القصة، سيحلم بأنه مازال حياً، سيطرق باب الفردوس الضائع، بينما هتافات الجماهير في المقاهي المجاورة تمزق سكينة ذلك الاثنين في الحلم، بدل يوم الأحد في الواقع.
المكان سيبدو مثل عراء سرمدي، ويغري الشيطان بأن يلهو في مثل هذه التفاصيل، ولن يهمه أن يعيش ذلك الميت في حلمه إثنينه، وفي الواقع يعيش الأحياء أحدهم، سينظرون إلى القارورة القريبة من فراشه في تقزز فصيح في ذلك الأحد، وسيفوته أن يسمع شتائمهم في ذلك الاثنين، وهو يغادر تابوت الحياة لكي يعيشها بشكل آخر.
سيحلم ذلك الميت أنه يطرق باب امرأة استطونت دمه، ستفتح له الباب، سيسألها في لهفة: (في أي يوم نحن؟)، تنظر إليه في ريبة، وسيقفز إلى المشهد -وبلا مبرر درامي- رجل كئيب متجهم، يتطاير لعابه، وهو يشتم شعوباً تتابع مباريات كرة القدم، ثم يغطسون مؤاخراتهم بقية اليوم في قاع الكراسي، بينما المساجد فارغة. سيثور الميت، الذي يحلم بأنه يكتب قصة مثل جده الذي شتم أعيان المدينة في اجتماع رسمي.
غادر الجد كرسيه غاضباً، وهو يسمع المسؤول الكبير في المدينة ينادي عليهم متأكداً من حضورهم: (ابن فائزة.. ابن الزمورية.. ابن عائشة.. ابن فلانة..)، هتف الجد في حنق: (ألا يوجد رجال في هذه المدينة؟! كلكم لقطاء!).
لن يحكي لها عن فقدانه إحساسه بالزمن، بعدما عوقب الجد المقاوم على إهانة الأعيان، وأنه يعيش في غيبوبة كل يوم، حتى ينسى الاثنين، الثلاثاء وبقية أيام الأسبوع، ولكي لا يتذكر أنه صار نزيل حجرة مع الجيران، تصدق عليه بها من اشترى أملاك الجد، بعد حجز الدولة على كل ممتلكاته، بذريعة التهرب الضريبي.
أخبرها بأنه ليس جباناً، ولن يهرب إلى السامراء حتى لا يجده الموت هنا، ولن يختبئ في ركن ما من يوم الأحد، لكي لا يعيش يوم الاثنين. اعترف لها بأنه يكره يوم الثلاثاء، لأنه يذكره بالرقم ثلاثة.
سيطرق الباب في الحلم، ذلك الباب الذي لم يكن سوى رسم على جدار، داخل مثلث كبير، يحدق فيه كلما اشتاق إلى حبيبة قديمة، كما يجدر برجل صموت، غارق في الكآبة والوحدة، التي تتفاقم كل أحد، وهو يلعن يوم الاثنين، الذي يجعله يفكر أنه كان بالإمكان أن يكونا أسعد اثنين في هذا العالم، بينما يكره بقية أيام الأسبوع، ويتمنى لو كان يستطيع أن يحذفها من يومياته.
سيحدق في الباب، سيتردد قليلاً، وهو يلتفت يمنة ويسرة، سيطرقه، وسينتظر إطلالة امرأة قضى طفولته يلعب معها، قبل أن يسرقها منه ابن خالتهما.
***
شوط إضافي
...................
...................
...................
اقتراح
يمكنك أيها القارئ العزيز أن توجه تسديدة أخرى عبر بريدي الإلكتروني، تملأ بياض هذا الهراء السردي، وتركل عطالة هذه الحياة.